المقالات العلمية

تجديد الخطاب الديني بالمغرب رؤية مقاصدية

إن بلورة خطاب ديني إسلامي راشد وصالح للناس، ومناســب  لزمانهم وحالهم، يتطـلب معرفة حسنة  بالمبادئ والقواعد الشرعية التي اعتمدتها الشريعة الإسلامية، إلى جانب حصول قدرة علمية تمكن من ربط أحكام الشرع   بمقاصد الشارع  منها، التي لن تكون إلا داعمة وحارسة لمصالح الناس.

عنوان الكتاب: تجديد الخطاب الديني بالمغرب رؤية مقاصدية من أجل الإسهام في تنمية السلم والأمن الدينيين، صالح النشاط، الطبعة الأولى، دار طوب بريس الرباط، 2008م.

    غير أن النظر في مقاصد الشريعة ومصالح الناس، والبحث عن نقط الالتقاء والتقاطع فيما بينهما، يجعل من الخطاب الديني أداة بانية، ووسيلة فعالة لإعادة الاعتبار للشريعة الإسلامية في أذهان الناس وواقعهم، من حيث قدرته على صياغة وتقديم  الأجوبة المناسبة لمختلف المستجدات والتحديات  والقضايا التي يعيشها مسلم هذا العصر.

مقالات ذات صلة

    إن الحديث عن الخطاب الديني الإسلامي وإمكانية تجديده، يندرج في إطار الحديث عن الدعوة الإسلامية، تحملا وتبليغا، وإقامة للشهادة للناس وعليهم، ارتباطا بقول الله تعالى:[كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُومِنُونَ بِاللّهِ][[1]]، إنه تكليف جماعي ومفتوح يسع أمة النبي صلى الله عليه وسلم، قصد خلق الدافعية  الإيجابية  الكفيلة بنشر دين الله تعالى وفق مراد الله تعالى، ومقصود شرعه  ونهج نبيه صلى الله عليه وسلم.

    لقد  شاءت حكمة الله  تعالى ألا يبقى رحم النبوة ولودا بعد النبي محمد بن عبد الله  صلى الله عليه وسلم، وتجلى ذلك في توقيف الوحي، أي توقيف أبدي  للتصويب والتوجيه والتسديد السماوي، وبذلك نقل فضل النبوة  وأجر وظيفتها إلى كل مسلم ـ دون اصطفاء  مباشر من الله عز وجل ـ أدى شرط الله في الانتماء لخير أمة، أي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وآمن بالله.

    إن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى آليات عملية ووسائط دعوية، أقلها البيان باللسان، وعمل اليد، فرديا كان أم جماعيا، وهذا هو جوهر موضوع الخطاب الديني الإسلامي.

    إن تعزيز تواجد الدين في حياة المجتمعات البشرية اليوم، أصبح مرتبطا بمدى قدرة الخطاب الديني عن الإجابة على كثير من الأسئلة الراهنة، وهي أسئلة المرحلة، ليست بالضرورة أن تكون أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر بالصيغة التي يتحدث عنها علماؤنا ودعاتنا الأولون، من قبيل تعزيز مبدأ المواطنة واحترام الآخر من حيث  تقرير قواعد التعامل مع المخالف، تعميق ثقافة حقوق الإنسان، اعتماد الديمقراطية وتوسيع آلية التداول السلمي والشرعي على السلطة، التجاوب مع مبدأ “الحكامة الراشدة” ومساهمة  مكونات المجتمع المدني في تسيير شؤون المجتمع، تأهيل مؤسسات التربية؛ والتعليم؛ ووسائط الإعلام لكي تنخرط في صناعة الحاضر والمستقبل، بيان  مساهمة المسجد في الدفع  بآلية التنمية المجتمعية الشاملة؛ من دعم  الأخلاق  العامة وحماية مؤسسة الأسرة؛ وخلق الدافعية  والإنتاجية لدى الأفراد والمجتمع،…

    من المؤكد أن  الخطاب الديني يملك  الجواب الكافي عن تلك الأسئلة، ويحوز القدرة على التعبير على ذلك، بوسائله وآلياته الخاصة. لكن هل هو جواب المرحلة؟ وما المساحة التي يشغلها النفس الإيجابي في تركيبته؟ هل يملك  إمكانية التعايش مع تلك الأسئلة/التحديات؟ هل هو مضطر في ذلك؟ أم أن في الشريعة الإسلامية ـ التي تعتبر من أهم منطلقاته وغاياته ـ ما يشفع له  أن يكون داعما قويا ومدافعا كبيرا عن تلك الأسئلة الراهنة؟

    إذا كان الإسلام لم يضيق على نفسه الدائرة، وترك  مساحة واسعة تسع كل المستجدات والطوارئ، وذلك من خلال ترفعه عن التنصيص الحصري على كل حادثة. بل إنه كلف العقل المسلم المجتهد بأن يتولى مهمة النظر في  مصالح البشرية  المتجددة وحاجاتها المستحدثة على ضوء المقاصد العامة للشريعة الإسلامية المنصوص عليها جملة لا تفصيلا. ومن تم يكون خطاب المجتهد خطابا بشريا نسبيا، فهو يحتمل الخطأ والصواب نتيجة تأثر تقديره وترجيحه، سلبا أو إيجابا،  بعوامل الزمان والمكان والإنسان.

    نعتقد أن النقطة المفصلية  التي تحدث،  حينما نتلقى خطابا دينيا، لا نكاد نميز فيه مراد  الدين وقصده الحقيقي عن مراد الأشخاص منتجي الخطاب، بناء على المقاصد الكبيرة للشريعة الإسلامية،  أي حينما تنسب الآراء الشخصية  إلى شرع الله تعالى، وتوقع باسم رب العالمين، فتمزج أحكام الإسلام بأحكام الإنسان، وتكون النتيجة في أسوإ الحالات تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله.

    فأي خطاب ديني يقدم الإسلام كدين جامد، لا يحيى إلا بالارتماء في أحضان قرونه الأولى، وأن شغله الشاغل هو استنساخ تجربة السلف الصالح لهذه الأمة، بشكل سقيم،  والركون إلى الأرض انتظارا لظهور علامات الساعة وأماراتها… لن يكون إلا خطابا ميتا، غير قادر على إنتاج الحياة في شرايين المجتمعات.

    تبعا لأهمية  تناول  هذا الموضوع وتحليله،  ثمة أسئلة كبيرة وعميقة تؤسس لموضوع تجديد الخطاب الديني، ننشرها على الشكل التالي: ما معنى الخطاب عموما؟ والخطاب الديني تحديدا؟ ماذا نعني بتجديد الخطاب الديني؟ وما هي أهداف وغايات هذا التجديد؟ لماذا يطرح موضوع  الخطاب الديني في هذا الوقت بالذات؟ أو بصيغة أخرى متى يتم تجديد الخطاب الديني؟ وكيف يتم ؟ ومن يقوم بذلك ؟.

    وان كنا لا ندعي أننا أحرزنا  قصب السبق في طرح هذه الأسئلة  وتداولها، فهي   متحررة من أي شبهة  التحيز والانتماء،  فهي قد صيغت على وجه طلب البيان والتفصيل. فالسؤال عن ماهية الخطاب الديني يضعنا حتما أمام ضرورة تحليل معناه وبيان أهدافه، في حين أن البحث عن دواعي تجديد الخطاب الديني وأسبابه؛ وهو متن السؤال ” لماذا “، هو الذي سيرسم المعالم الكبرى  لخريطة الجواب والبيان؛

   أما السؤال الكبير عن الكيفية والطريقة التي من خلالها يتم تجديد الخطاب الديني فهو يحدد ويؤسس للآليات والضوابط والمحددات؛

    بقي السؤال عن الشخص، سواء كان طبيعيا أو اعتباريا، المعني بتجديد الخطاب الديني، وفي ارتباطه بعنصر الزمن ” من ومتى ” يضعنا أمام تحديد المسؤوليات، وتحميل كل    طرف مقصود بهذا الموضوع، ما يمكن أن يساهم به في إثراء الخطاب الديني، بما يوافق مقصد الدين وشريعة الله تعالى.

    بغية التفصيل في تحليل الجواب عن تلك الأسئلة وتلك التي ستتناسل منها، نرى ضرورة التمهيد بأسئلة مفاتيح لعلها تكون بلسما في رسم معالم هذا الموضوع. وهي على الشكل التالي:

  • تجديد الخطاب الديني هل هو سؤال قديم زمنيا؟
  • هل كان النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعده الخلفاء الراشدون  مجددين للخطاب الديني، وكيف كان ذلك ؟
  • كيف كان التعامل مع تجديد الخطاب الديني في القرون التي تلت فترة الخلفاء الراشدين؟
  • كيف كانت مساهمة المغرب في عملية تجديد الخطاب الديني؟
  • هل الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني المطروحة  بالصيغة الحالية، كانت استجابة لإملاءات خارجية؟

أولا: السياق الزمني

    بسط القول على أن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني ظلت مطروحة ومثارة داخل العالم الإسلامي منذ أكثر من قرن، ففي السياق الزمني العام، يمكن التأكيد على أن  اشتغال الأمة على موضوع تجديد الخطاب الديني انطلق من  حضن  القرون الأولى من تاريخ  الأمة الإسلامية، نتيجة تعدد مداخل ومخارج  الحضارة الإسلامية وتوسع شبكة العلاقات والمعاملات،  وتزايد اهتمام الناس بالإسلام في مختلف الأزمنة والأمكنة.

    إذن فتجديد الخطاب الديني هو حديث قديم، وسؤال قديم زمنيا، ورد في كتب الحديث والفقه والفكر الإسلامي، وتحدث عنه المحدثون والفقهاء  والعلماء منذ القرون الأولى التي تلت حياة النبي صلى الله عليه وسلم، متخذين ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[ إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها][[2]]، سندا ومرتكزا للتأسيس لخطاب التجديد المواكب لمستجدات الحياة الإسلامية.

    حتى إن الحديث النبوي الذي سبقت الإشارة إليه، لقي تعاملا خاصا من طرف المحدثين والفقهاء، وهم يحاولون الإجابة عن المقصود الحقيقي بعملية التجديد وارتباطها بعنصر الزمن المحدد في قرن، هل يمكن التمييز بين التجديد الذي يطال الدين الذي هو الإسلام الهدي المنزل من عند الله تعالى، وبين التجديد الذي يكون موضوعه الخطاب الديني باعتباره وسيلة ناقلة وحاملة للدين إلى الناس، تتأثر كغيرها من الوسائل بظرفي الزمان والمكان؟.

    هل تجديد أمر الدين ينفي صفة الصلاحية الزمانية والمكانية للدين؟ أم أنه يختلف باختلاف الزمان، ويتنوع بتنوع المكان؟ هل أحوال الأمة الإسلامية تتغير، وظروفها تتجدد في كل قرن، مما يستدعي حضور الشخص المجدد، محدثا أو فقيها أو عالما كان، أو مجمعا فقهيا، أو مؤسسة فكرية علمية؟.

    إن الرجوع إلى  تاريخ المسلمين، يسعفنا في  الكشف على أن رحم الأمة الإسلامية كان ولودا من حيث عدد المجددين لأمر الدين وخطابه، منذ خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه  إلى الزمان الذي نحياه الآن، من أجل تكييفه مع شروط العصر وفق مقاصد الشارع، وعليه اصبح  العلماء يتحدثون عن حركات تجديدية ترشيدية وتصويبية لهذا الشأن، كانت تظهر من وقت لآخر استجابة لحدوث أنماط حياة وفكر لم تكن معهودة في عصر النبوة المسدد بالوحي.

    فمنذ القرن الأول الهجري، وأفهام المسلمين تتجدد يوما بعد يوم، تبعا لمستجدات الحياة وظروفها، من قبيل  انفتاحهم على بعض الحضارات، وفتحهم لبعضها الآخر، واختلاط ثقافتهم العربية الإسلامية  بالثقافات الأخرى كالفارسية والرومية والأندلسية، ومرورا بغزو التتار لبغداد ونهبها وتدمير كتبها وآثارها، ونوازل أخرى تركت بصماتها واضحة على حياة المسلمين، ووصولا إلى الاستعمار العسكري الذي شمل جل بلدان المسلمين في القرن الماضي، فإلى جانب إفقار الدول الإسلامية المستعمرة، انصب اهتمام الدول الاستعمارية على إغتيال قدرة المجتمعات الإسلامية على المقاومة والصمود، وتطويعها لكي تكون خادمة مطيعة  وتابعة منفذة.

    أما على مستوى الكتابات التي تناولت موضوع تجديد الخطاب الديني، ذهب عدد كبير من المصلحين و المجددين في اتجاه مناصرة وتأييد صلاحية الإسلام زمانا ومكانا وإنسانا،  وذلك عن طريق تجديد الخطاب الديني باعتباره كلام بشري حامل وناقل لخطاب الشريعة الإسلامية إلى عموم الناس. ومن جملة هؤلاء الذين تناولوا موضوع  تجديد الخطاب والفكر الدينيين في القرن الذي ودعناه، نجد محمد إقبال صاحب كتاب “تجديد الفكر  الديني في الإسلام“، وقد يعتبر هذا المؤلف من أوائل اللبنات التي وضعت في هذا البناء، ثم سارت على منواله كتب أخرى تناولت ذات الموضوع، مثل  كتاب”المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر” لعبد المتعال الصعيدي، و”المجددون في الإسلام” لأمين الخولي، و”تجديد الفكر الإسلامي” لمحسن عبد الحميد، و”العمل الديني وتجديد العقل” للدكتور طه عبد الرحمان، و”معالم الخطاب الإسلامي” لعبد الوهاب المسيري، وربما يكون آخر من كتب في موضوع تجديد الخطاب الديني الشيخ  يوسف القرضاوي، حيث ألف كتابا صدر  في سنة 2004 يحمل اسم:”خطابنا الإسلامي  في عصر العولمة” و الأستاذ محمد بن شاكر الشريف “تجديد الخطاب الديني بين التأصيل والتحريف“.

ثانيا: فترة النبوة وعهد الخلافة الراشدة

    إذا كنا نتحدث عن تجديد الخطاب  بصفة عامة، فيمكن القول أن جميع الأنبياء والرسل  شاركوا في هذا التجديد، حتى اكتمل بيت النبوة بإضافة آخر لبنة من بني هاشم بمكة المكرمة.  وهذا ما بينه القرآن الكريم بنفسه، حينما تحدث عن طريقة وأسلوب كل نبي على حدة في تبليغ  رسالة الله تعالى، لان الظروف المكانية والزمانية  كانت تؤثر  في  لون الخطاب الديني، إن كان نوح عليه السلام استغرق في دعوته ألف سنة إلا خمسين  يدعو قومه ليلا ونهارا، سرا وجهرا، من اجل إسماعهم كلمة التوحيد، فان  نبي الله ابراهيم  عليه السلام  قام بجولات دعوية  كبيرة مع كبراء القوم  وسادتهم، أما  دعوة لوط عليه السلام فتميزت بمحاربة الفساد الأخلاقي الذي استشرى في القوم.  في مقابل اتسمت  دعوة كل من نبي الله يوسف وشعيب عليهما السلام،  بالمطالبة   بالإحسان في المعاملات والعلاقات الاقتصادية بين الناس. ووصلت دعوة الحق ذروتها من خلال مناصرة قضايا المستضعفين  مع موسى وهارون عليهما السلام، حينما وقفا أمام فرعون لنهييه عن ظلمه واستخفافه بالناس. وأكتمل بيت النبوة بدعوة عيسى  ومحمد عليهما  الصلاة و السلام تباعا،  بقي أن نشير إلى  أن الأنبياء الآخرين الذين لم يتم ذكرهم، هم كذلك  ساهموا في إقامة صرح  النبوة، كل حسب ما  أريد له من قبل الله تعالى. وبذلك  تكاملت  أدوارهم  وكمُـلت مهامهم، وكان ختامها قولُ الله تعالى: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِسْلاَمَ دِيناً][[3]] .

    وهذا هو الرأي الذي ذهب إليه الدكتور طه جابر العلواني  وهو يتحدث عن تجديد الدين في حضن الأنبياء عليهم السلام، حيث قال:[التجديد ـ قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ كان رسالة الأنبياء، فكلما جاء رسول إلى أمة وفترت رسالته جدد الله سبحانه وتعالى صلة تلك الأمة برسالتها عن طريق إرسال رسول آخر يجدد لها دينها[[4]].

    أما إذا انصب الحديث عن تجديد الخطاب الديني  بصفة خاصة في حياة النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فيمكن القول على أنه من الثابت عند المسلمين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مجددا بالمعنى الذي نتحدث عنه للتجديد، وذلك من حيث:

    1-:  اعتبار وظيفته صلى الله عليه وسلم  كانت هي التبليغ عن رب العالمين بواسطة الوحي المشتمل على آيات محكمات قطعيات وأخرى متشابهات ظنيات، دون نقص أو زيادة.

    2-: ارتباط القرآن، الذي هو خطاب الله تعالى وكلامه، بأسباب النزول كان مناسبا وملائما للمرحلة التي وجد فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فغالب حركاته ومواقفه كانت مسددة بالوحي إلى حين التحاقه بالرفيق الأعلى.

    3-: افتراض الحديث عن التجديد لا يكون إلا بعد أن يصاب الشيء موضوع التجديد بالقدم، أو أن يصبح متجاوزا، وعاجزا عن تجاوبه واستجابته للحظة التاريخية التي يحياها. وهذا ما لم يقع فيه خطاب النبي صلى الله عليه وسلم.

    لكن  حينما نتأمل   الكيفية التي نزل بها القرآن الكريم وتدرجه تبعا لخصوصية المرحلة المكية و المرحلة المدنية،  واعتماده على آلية النسخ  في كثير من الأحيان، واقتران نزوله بأسباب مادية مبررة، ووقائع  مكشوفة، يتبين أن الإسلام في حد ذاته هو دين التجديد والتطوير والمواكبة، وأنه يعيش اللحظة التاريخية بعينها، ولا يتجاوزها أو يتجاهلها.

    بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والتحاقه بالرفيق الأعلى، واكتمال بيت النبوة، وتوقف الهدي السماوي، والتسديد والتصويبب الإلهي،  يأتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كأول خليفة للمسلمين، لكي يسوسهم ويقودهم دينيا ودنيويا، دافعا عنهم المفاسد والمضار، جالبا لهم المصالح والمنافع. لكن المرجعية المعتمدة هذه المرة في تقدير المفسدة والمصلحة ليست هي الوحي، إنما هي العقل والنظر في نصوص الشريعة الإسلامية القطعية منها والظنية. والعمل على تحقيق المطابقة بين النص والواقع، مما يعني إمكانية حدوث الإصـابة والخـطأ.

    وتبعا لقلة المتغيرات والمستجدات وضعف تأثيرها على مدة خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، نجد أن التاريخ قد سجل لهذا الرجل زهده في إنتاج أي تفكير جديد من شأنه أن يجيب عن بعض الأسئلة التي ارتبطت بعهده، حتى عملية جمع القرآن وتدوينه حصل فيها  تعثر بدعوى انه عبر عن خشيته في بداية الأمر، من كونه سيقدم على عمل لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقحما نفسه في دائرة البدعة المؤدية إلى الضلالة ثم إلى النار.

    مباشرة بعد موت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وتحمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مسؤولية الخلافة ظهرت تحديات اجتماعية سياسية واقتصادية كبيرة تطلبت جرأة ايجابية في المعالجة، وتناولا حسنا  لمختلف القضايا المستجدة، دون المس بثوابت الشريعة الإسلامية وقطعياتها، فعلى سبيل المثال، نذكر بعض التدابير  التي أقدم عليها الفاروق رضي الله عنه، من قبيل عدم توزيع أرض سواد العراق على المقاتلين، وفرض الخراج بدلا عنها، معللا ذلك بالحرص على الحفاظ على مصلحة المسلمين، نساء ورجالا، حاضرا ومستقبلا، وأن الشريعة جاءت مقدمة المصلحة العامة على المصلحة الخاصة؛ فتوزيع الأراضي المفتوحة حصرا على المقاتلين قد يحرم المسلمين الغير المقاتلين من الضعفاء والنساء والأطفال من هذا الخير، كما أنه يعتبر سببا في إثراء البعض على حساب البعض الآخر، مما قد يحدث فوارق اجتماعية صارخة في جسم الأمة الإسلامية. فضلا عن إضعاف خزينة الدولة من خيرات تلك البلدان المفتوحة.

    [عن ابراهيم التيمي قال: لما افتتح المسلمون السواد، قالوا لعمر بن الخطاب رضوان الله عليه اقسمه بيننا، فأبى، فقالوا: إنا فتحناه عنوة، قال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ فأخاف أن تفاسدوا  بينكم في المياه، وأخاف أن تقتتلوا، فأقر أهل السواد في أرضهم وضرب على رؤوسهم الضرائب ـ يعني الجزية ـ وعلى أرضهم الطسق ـ يعني الخراج ـ  ولم يقسمها بينهم][[5]] [وعنه أنه قال: لولا أني اترك الناس يبابا لا شيء لهم ـ ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر][[6]].

    كما أنه أيضا، أوقف توقيع حد السرقة في عام المجاعة معتبرا أن هناك شبهة عامة، وهي أن الناس يسرقون إنقاذا لأنفسهم من خطر الجوع، والقاعدة العامة في باب الحدود تقول: ادرؤوا الحدود بالشبهات.

    أما نظره رضي الله عنه في موضوع المؤلفة قلوبهم، انطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه من علة إحداث هذا الصنف من الناس، المقتصرة على تأليف قلوب بعض الأفراد وتحبيبهم في الدخول إلى الإسلام، إلا أن هذا الذي   ألف قلبه لن يمكث أبد الدهر معتبرا نفسه من المؤلفة قلوبهم، وبالتالي فان مقصد الشارع سيفوت وسيضيع، وعليه منع عمر بن الخطاب بعض الناس من أن يضلوا  مؤلفة قلوبهم إلى حين وفاتهم.

    هذه بعض الأمثلة المبثوثة هنا وهناك في كثير من كتب العلم والفقه، وسبب ورودها هو بيان أن النفس التجديدي انطلق منذ العقود الأولى من تاريخ أمة السلام، مرتكزا على النصوص المحكمة وثوابت الشريعة، وموظفا مرونة وسعة الدين  وخاصيته التي تؤهله دينا عالميا صالحا لكل زمان ومكان ومناسبا لكل إنسان.

    ولا نحتاج إلى ذكر أن فهم وعمل وخطاب الخلفاء الراشدين يدخل في عموم  الحديث الذي روي عن طريق العرباض بن سارية الذي قال: [قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فوعظنا موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقيل يارسول الله وعظتنا موعظة مودع فاعهد إلينا بعهد فقال عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا وسترون من بعدي اختلافا شديدا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم والأمور المحدثات فإن كل بدعة ضلالة][[7]]  

    وعليه يكون احتضان عصر الخلفاء الراشدين لبذور تجديد الفهم وإعادة النظر في بعض النصوص الظنية التي تحتمل اكثر من معنى وتأويل، على ضوء النصوص الثابتة والقطعية، بمثابة إجازة نبوية لعملية التجديد وطرق أبوابها كلما استجد طارئ، ودعت إليه ضرورة من الضرورات المقدرة والمعتبرة.

ثالثا: ما بعد فترة الخلفاء الراشدين

    بعد عصر الخلفاء الراشدين المشهود له بالسير على منهاج النبوة، تتابعت سلسلة أئمة التجديد، تبعا لمستجدات فقهية، علمية، كلامية، اجتماعية، اقتصادية وحتى سياسية،(…) طرأت على واقع المسلمين، حيث تطلبت تدخل العلماء والفقهاء بفقههم وعلمهم وخطابهم المناسب لتلك المستجدات. إلا أن ضوابط التجديد وتعريف المجدد لم تكن محددة وواضحة، لسبب بسيط هو أن لا أحد من المسلمين  يملك تفويضا إلهيا يمكنه من تعيين الشخص أو نعته بالمجدد أو تحديده للقيام بهذه المهمة، ولذلك تضاربت وجهات نظر الناس حول ترشيح وترتيب بعض الفقهاء والعلماء لنيل درجة المجدد تبعا لمساهماته في إغناء الفهرسة الإسلامية، أو قيامه بأعمال ما زال تراث الأمة الإسلامية شاهدا لها، ومعترفا بفضلها وسبقها المعرفي.

    من جملة من تناول موضوع  الحديث عن  أئمة التجديد نجد الإمام السيوطي الذي رتبهم، وفق المنهج الذي ارتضاه لنفسه، على الشكل التالي :  

مجدد القرن الهجري الأول هو الخليفة  عمر بن عبد العزيز؛

القرن الثاني هو الإمام الشافعي؛

القرن الثالث : ابن سريج؛

القرن الرابع إمام الحرمين الجويني؛

القرن الخامس  حجة الإسلام الغزالي؛

القرن السادس : فخر الدين الرازي؛

القرن السابع:  ابن دقيق العيد؛

القرن الثامن : سراج الدين البلقيني أو الحافظ  زين  الدين العراقي.

[ليصل بنا  السيوطي إلى عصره مبديا تطلعه إلى أن يكون هو مجدد القرن الذي عاش فيه[[8]]، وقد نظم قصيدة في هذا الشأن[[9]]، نأخذ منها الأبيات التالية:

 لقد أتى في خبر  مشـــــــتهر           رواه كل عالـــــــــــم معتبر

 بأنه في رأس كل مائـــــــــة            يبـــــــــعث ربنا  لدين الأمة

منا عليها عالمــــــــــــا يجدد            دين الهــــــدى  لأنه مجتــهد

فكان عند المائة الأولى  عمر            خليــــفة العدل  باجمــاع وقر

والـــــشافعي  كان عند الثانية            لما له  من العلــــوم السامية

وابن سريــــــــج ثالث الأئمة           والأشـــــــــعري عده من أمه

والباقـلاني  رابع  أو سهل أو          الاســــفراييني، خلف قد حكوا

والخامس  الحبر هو الغـزالي          وعده ما فيه من جــــــــــــدال

والسادس الفخرالامام الرازي          والرافـــــــــــعي  مثله يوازي

والسابع  الراقي الى المـراقي          ابن دقــــــــــــيق العيد  باتفاق

والثامن  الحبر هو البلقــــيني          أو حافظ  الانام زين الديــــــن

(…)

وهذه تاسعة  المئــــــــــين قد          أتت ولا يخلف ما الهادي وعد

وقد رجوت انني المـــــــجدد          فيها ففضل  الله ليس  يجــــحد

    وهناك ترتيب آخر جاء على الشكل التالي :

    [الحركة التجديدية الأولى عمر بن عبد العزيز والإمام الشافعي والإمام احمد بن حنبل وابن تيمية  ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب][[10]]

    في مقابل نجد أن الدكتور محسن عبد الحميد، يذكر الأسماء التالية ويعتبرهم من أئمة التجديد الإسلامي: [محمد بن عبد الوهاب، محمد إقبال، سعيد النورسي][[11]]

    إن الأسماء التي تم ذكرها، وغيرها كثير، لا تحظى بقوة إجماع الأمة الإسلامية، فعلى سبيل المثال، نجد أن أغلب الذين ذكرهم الإمام السيوطي ينتمون إلى المدرسة الشافعية، ومنه يتضح أن عملية اختيار المجدد وترشيحه لحمل لقب مجدد القرن، على العموم، ما زالت أسيرة ولاء مذهبي، وقرب معرفي،  وعليه يمكن القول أن لكل زمان ومكان أئمته في التجديد، سطع نجمهم في مجال من المجالات المعرفية الحية، وان اختلفت مذاهبهم الفكرية والفقهية.

    إن كان الحديث عن موضوع التجديد وأئمة التجديد  في إطاره العام ضروريا من أجل بيان الفضاء ورسم الحدود والمعالم التي يمكن الاشتغال في نطاقها، فان تجديد الخطاب الديني كأحد الأوراش التي اشتغل عليها فكر التجديد مدة طويلة من الزمن، يعتبر ترجمة حقيقية وحية للدين نفسه، وخدمة جليلة للدعوة إليه، فبواسطة الخطاب الديني يتعرف الناس على الدين، ويرسمون طريقهم في التدين، وبقدر انفتاح الخطاب الديني ينفتح الناس، وينغلقون على أنفسهم وعلى محيطهم إذا كانوا يتلقون خطابا منغلقا يؤخر ولا يقدم. لذلك كان لا مناص من اهتمام المجددين بالخطاب الديني، واعتباره أولوية من الأولويات التي لا تحتاج إلى تأخير، سيما إذا تم اعتبار أن مفتاح خروج المسلمين  من تخلفهم وعجزهم هو إنتاج خطاب ديني جديد،  قادر على نفخ الحياة من جديد في أوصالهم وخلق الدافعية عندهم من أجل الإقدام لا الإحجام.

    والواقع أن الدعوة إلى مراجعة الخطاب الديني ليست وليدة ظروف خارجية طارئة أو مستجدة، بل لها جذورها المستمرة في واقع الأمة وقضاياها الملحة، وهى دعوة مثارة داخل العالم الإسلامي منذ قرنين على الأقل، نتيجة عدة أسباب وعوامل خارجية وداخلية نجملها فيما يلي:

    1-  الحملة الفرنسية على مصر من 1798 إلى 1801 وما أثارته من أسئلة،  نظرا لموقع مصر في تلك الحقبة وما تشكله من مركزية عربية وإسلامية، فهي بمثابة القلب من الجسد، وتعرضها للحملة الفرنسية كان يعني أن الأمة الإسلامية قد خارت قواها، وأنها أصيبت في مقتل، مما كان له الأثر الكبير في المناداة على تحفيز الأمة وبث روح المقاومة والصمود انطلاقا من تجديد الخطاب والبيان والكلام الديني؛

    2- إلى جانب الغزو العسكري الذي صاحب الحملة الفرنسية، حصلت لدى بعض المسلمين صدمة قوية بسبب مفاجأته مما أحرزه الغرب من تقدم علمي وعسكري واقتصادي، في مقابل انبهر البعض الآخر ساعيا إلى استنساخ التجربة الغربية  ونقلها إلى العالم الإسلامي نقلا حرفيا؛

    3- ضعف الدول الإسلامية بما في ذلك  الدولة العثمانية وعجزها وجمودها، كان سببا قويا في إتاحة الفرصة أمام الدول الغربية  من أجل استعمارها وغزوها، وما يتبع ذلك من استغلال خيراتها، وإذلال مواطنيها، وإغتيال كل إرادة في المقاومة والتحرير.

    نتيجة لهذه الأسباب والعوامل الخارجية والداخلية، بدأ الخطاب الديني الإسلامي يتشكل، ويرسم معالمه، وتمت بلورة مشاريع إصلاحية قائمة على خطاب إصلاحي جديد يناسب خطاب المرحلة المطلوب، فكان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده من الأوائل الذين حملوا مشعل الإصلاح والتجديد في الفكر والخطاب الدينيين، حيث تراوح مشروعهما بين إصلاح الشأن السياسي والشأن الديني.

    إذا كان الأفغاني قد هاجم الاستبداد وطغيان الحكام من زاوية إصلاحية ترمي إلى إعادة النظر في وظيفة السياسة الدافعة لكل مفسدة والجالبة لكل مصلحة دينية أو دنيوية، فإن  محمد عبده  بدوره اتجه إلى المطالبة بتجديد في الشأن  الديني من خلال الحض على المزاوجة بين العلوم الدينية والعصرية والسعي لتمكين الأمة، و ترك التقليد وإفساح المجال أمام العقل المسلم لكي يساهم في إنجاز مشروع البناء والتقدم، بدلا من الإبقاء على أسره في سجون عصور الانحطاط مكبلا بخطاب غير صالح لا زمانا ولا مكانا ولا إنسانا. وتم إطلاق أول لبنة في هذا المشروع من خلال تكوين جمعية العروة الوثقى في باريس التي بدأت في إصدار مجلة تحمل نفس اسم الجمعية.

    أما رشيد رضا، وهو من أكبر تلامذة محمد عبده، فقد سلك نفس مسلك أستاذه مضيفا إليه روحا جديدة في الإصلاح، حيث أصدر العدد الأول من مجلة المنار التي اتخذها سندا في تبليغ خطابه الديني القائم على الدعوة إلى الإصلاح الديني والاجتماعي للأمة الإسلامية، من حيث الرد على كثير من الشبهات المثارة آنذاك والمشوهة   لحقيقة الإسلام ودوره في الحياة الاجتماعية.

    كما أن التاريخ سجل مساهمة قيمة لعبد الرحمان الكواكبي من حيث إصداره لكتابين، الأول يحمل اسم : “طبائع الاستبداد” والثاني يحمل اسم: “أم القرى“، اللذين  شكلا في تلك اللحظة التاريخية تجديدا للخطاب الديني وارتقاء به من خانة الحديث عن محاربة البدع والخرافات إلى المساهمة في إقامة صرح الدول وتأهيلها سياسيا عبر بوابة  إشاعة العدل.

    إن كان عبد الرحمان الكواكبي يلتقي مع جمال الدين الأفغاني في جوهر الدعوة الموجهة إلى إصلاح السياسة وإكسابها خلق العدل، فانه بحق يمكن الإشادة بالمستوى الذي وصل إليه إنتاج الكواكبي من خلال سبقه المعرفي في تحليل الاستبداد سياسيا و دينيا، وبيان دوافعه  وطبائعه (كتاب طبائع الاستبداد)، واقتراحه لأول تصور عن خلق أممية إسلامية جامعة لشتات الدول العربية  والإسلامية (كتاب أم القرى).

رابعا:  التجربة المغربية

    المغرب، البلد الذي لم يكن تابعا، ولا خاضعا للإمبراطورية العثمانية يوما ما، هو الآخر عرف تجربة رائدة على مستوى الارتقاء بالدين وتجديد معالمه، وتكـيـيفه وفق الخصوصية المغربية في تناغم تام بين طبيعة النص الديني، وبين متطلبات اللحظة التاريخية التي كان يعيشها المسلمون المغاربة.

    لقد شكل المذهب المالكي المعتمد رسميا وشعبيا في المغرب أساسا متينا في إقامة نهضة دينية تجديدية شاملة مست جميع جوانب الحياة  المغربية، ومن بين أسباب تمسك المغاربة، على غرار عدة دول إسلامية أخرى، بهذا المذهب  هو المساحة الكبيرة  التي احتلتها المصلحة  المرسلة على خريطة فقه الإمام مالك وأتباعه، إضافة إلى اعتماد مبدأ المقاصد وربط الأحكام بعللها، من خلال  نظرية  الإمام الشاطبي  في كتابه الموافقات. هذا الكتاب،اعتبر بحق مساهمة تجديدية، وإضافة نوعية في علم مقاصد  الشريعة الإسلامية.

    فإذا كان للمشرق رجاله الذين أسهموا في إعادة نضارة الحضارة الإسلامية من خلال محاولاتهم التجديدية التي شملت مختلف المجالات، فإن المغرب هو الآخر كان ولودا، فـبره أبناءه وعمدوا إلى إزالة كل العوائق الذاتية والموضوعية التي وضعت لتكبيل وإعاقة كل حركة تجديدية من شأنها إشراك الدين في رسم معالم الحياة.

    الحركات التجديدية التي عرفها المغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لبست لبوس السلفية الوطنية المغربية، حيث  انصب اهتمام المصلحين المغاربة على الجمع  بين الإصلاح الديني ونشر التربية والتعليم. في بدايات القرن العشرين نصب هؤلاء المصلحون المجددون أنفسهم للمطالبة بإقرار الحريات الديمقراطية والحياة النيابية الدستورية والاستفادة من تجارب الآخر التي لا تتعارض ومقاصد الشريعة الإسلامية.

    كان أبو شعيب الدكالي، وهو من أحد أقطاب الحركة السلفية المغربية، ينادي بضرورة تجديد جامعة القرويين، وتأهيلها لكي تساهم في بناء حاضر المغرب ومستقبله، كما أن دروسه ومحاضراته كانت تطالب بضرورة انفتاح المغاربة وتجديد مواقفهم اتجاه كثير من القضايا وفق ثوابت الشريعة الإسلامية ومسلماتها.

    أما تلميذه الشيخ ابن العربي العلوي فكان هو الأب الروحي للحركة الوطنية المغربية التي مزجت بين السلفية والتحديث، وذلك من خلال اعتمادها على آلية تأسيس الأحزاب السياسية لتنظيم المواطنين قصد تعبئتهم لمواجهة الاستعمار الفرنسي.

    يأتي علال الفاسي، صاحب كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، وكأحد  الذين استفادوا من خبرة وتجربة الشيخ ابن العربي العلوي، حيث سيؤسس حزبا سياسيا  كتعبير منه على أن السلفية وان كانت تمتح نفسها من الماضي، السلف الصالح، إلا أنها تعيش حاضر الناس  وتستشرف مستقبلهم، وذلك من خلال المزج بين السلفية كارتباط بالأصالة الفكرية والموروث الديني الصافي، وبين الوطنية وما تعنيه من استعداد دائم لنصرة الوطن والدفاع عن بيضته. وهذا الاتصال والترابط بين السلفي والوطني، أو ما كان يسمى بـ “السلفية الوطنية” هو الذي جعل من التجربة المغربية  أن تكون في  صف التجارب الرائدة عالميا،  كتجربة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في المشرق.

    استشعر رواد هذه السلفية الوطنية في ضرورة  إيجاد خطاب ديني يواكب هذه اللحظة التاريخية التي كان يمر بها المغرب، فانصب الاهتمام على المناداة بتحرير العقول من كل الأفكار والمسلمات الغير السليمة التي ترسبت وتكلست في أذهان  الكثير من المسلمين، وتعليم المغاربة ومحاربة الجهل والأمية، وتأهيل الشأن الديني واكسابه القدرة على خلق التناغم بين جميع مجالات الحياة. وهذا الاهتمام هو الذي قاد معركة التحديث التي شملت اغلب قطاعات البلد آنذاك.

    شكل خطاب هؤلاء الأقطاب الذين تم ذكرهم سابقا، علاجا ودواء شافيا للأسقام الدينية والاجتماعية والسياسية التي كانت تعاني منها الأمة الإسلامية، وهم بهذا الصنيع، نجد ثلة منهم قدموا خدمة جليلة للدين الإسلامي من حيث بيان شموله وتكامله وانسجامه واستيعابه لكل المستجدات الطارئة. أكيد أن مساهمات هؤلاء كان يطغى عليها طابع إثبات الذات، والدفاع عن تحصين المكتسبات،  والإعلان عن وجودية الإسلام، وانه رقم لا يمكن تجاوزه، ولا إقصاؤه.

خامسا : الخطاب الديني  والإملاءات الخارجية

    مبدئيا، وأمام هذا السبق المعرفي، لا يملك المسلم إلا أن يتفق مع الذي يؤكد  على أن الدعوة إلى  تجديد الخطاب الديني هي  دعوة قديمة في المجتمعات العربية والإسلامية، ولم تكن، ولن تكون،  أبدا عبارة عن رد فعل على حدث وقع خارج الذات العربية والإسلامية مستجيبة له دون تمحيص وتدقيق،  إلا من باب إعادة النظر ومراجعة الذات في حالة  حصول تشوه في فكر المسلمين  وخطابهم  المتصل  بنصوص الإسلام، آنذاك تكون الدعوة إلى تجديد الخطاب مبررة وواضحة، حتى وان تزامنت هذه الدعوة مع دعوات  الآخر الغير المسلم، كما حصل في السنوات الخمس الأخيرة من هذا العقد الذي نعيشه، حيث يطالب المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية، وخصوصا تلك التي اكتوت بنار “الإرهاب”، بضرورة مراجعة الخطاب الديني للدول الإسلامية ومكوناتها الشعبية ومؤسساتها الرسمية.

    فمنذ أحداث الحادي عشر شتنبر من سنة 2001، والولايات المتحدة الأمريكية، ومن يقف في صفها ويومن بضرورة الدفاع عن مصالحها، يطالبون بضرورة إعادة النظر في الفكر الإسلامي؛ والثقافة الإسلامية؛ والخطاب الإسلامي، على اعتبار  أن المتهم الأول والرئيسي في الذي حصل حسب زعمهم، هو الإسلام  بفكره وثقافته وخطابه. أو على الأقل  يتحمل مسؤولية معنوية على الذي حصل، ومن تم لم يكن غريبا أن يطلب من الدول الإسلامية والعربية أن تحارب الإرهاب من خلال تجفيف منابعه، أي أن تتعامل مع الدين الإسلامي وفق تصور جديد، واستراتيجية جديدة تراعي السلم والأمن الدوليين، وتحفظ للدول مصالحهم ومنافعهم.

    استقراء للواقع، ولخطابات الدول الغربية وحتى بعض الدول العربية الإسلامية المستجيبة للضغوط الدولية، نجد أن المعالم الكبرى لصياغة خطاب  ديني جديد “حداثي” تتشكل من خلال الإجراءات  التالية:

    1- حصر الدين الإسلامي في خانة العبادات، والشؤون الخاصة الفردية، واعتبار سؤال التدين شأنا ذاتيا بين الفرد وربه، ولا حاجة لتنظيمه والتعبير عنه من خلال جمعيات  ومؤسسات وحركات، بل الإكثار من الضغط والتضييق حتى يقدم الإسلام بمنظومته ومنهجه، استقالته من الحياة؛

    2- مراجعة مناهج التعليم في جميع أسلاكه، وتنميط لوظيفة المدرسة، مع الاستغناء عن جميع أشكال التلقي والتعلم خارج هذه المدارس، في إشارة إلى مدارس التعليم العتيق الغير المراقبة والغير الخاضعة  للنظام التربوي العام للدولة.

    تفرق موقف المسلمين، أفرادا كانوا، أم منظمات جمعوية وهيئات حركية، وأحزاب سياسية، ومؤسسات رسمية، إزاء هذه الدعوة الأجنبية الداعية إلى تجديد الخطاب الديني الإسلامي الى  ثلاث اتجاهات رئيسية :

    الاتجاه الأول: يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية ـ من خلال دعوتها إلى تجديد أو تغيير  الخطاب الديني الإسلامي ـ  تريد فرض سيطرتها وسطوتها على العالم العربي والإسلامي، فعلى جميع الاحتمالات، لا يمكن اعتبار أن ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية من  خلال دعوتها لتجديد الخطاب الديني كانت تريد به “وجه الله تعالى” وخدمة الإسلام، لأن أية دولة لا تبحث إلا عن مصالحها. وعليه يكون هذا الاتجاه رافضا لأي تجديد مقترح وفق الأجندة الأميركية مهما كانت الدواعي والمبررات،  على أساس أن السياسة الأمريكية والأوربية  قائمة، ابتداء على العداء للدول الإسلامية، ومن تم فقبول أية دعوة لتجديد الفكر والخطاب  الدينيين معناه الإذعان لما يطرحه الغرب عموماً وخاصة أمريكا العدو الأول للمسلمين من إصلاحات دينية غير مقبولة.

    إذا، فهذا الاتجاه  لا يفصل  الدعوة الأمريكية إلى تجديد الخطاب الديني عن  الباعث الحقيقي الذي يقف وراءها، المتمثل في رغبتها المعلنة عن القضاء عن جيوب “الإرهاب”  أينما كانت، ومن تم تصبح هذه الدعوة غير بريئة في اصلها، ولا تعبر عن حرصها في أن يكون الخطاب الديني الإسلامي مواكبا للزمان والمكان، مراعيا لأحوال الإنسان، موافقا للثوابت القطعية من نصوص الإسلام. فكل ما في الأمر أن لغة المصالح والمكاسب تبرر نهج كل السبل وركوب كل الوسائل من أجل الحفاظ عليها وتعزيز تواجدها، وما موجة  الخطاب الديني إلا أحد هذه السبل والوسائل.

    الاتجاه الثاني: يذهب إلى أن  العرب والمسلمين مطالبون  بالتعامل الإيجابي مع الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، دون  الاهتمام لطبيعة الوعاء الذي خرجت منه، فان كنا  لا نستطيع التغاضي عن أخطائنا وزلاتنا فان من الواجب ألا نستنكف عن إصلاحها  لمجرد دعوة الآخر الغير المسلم، ولنا العبرة  في السيرة النبوية، حينما استنكر المشركون على المسلمين القتال في الشهر الحرام فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم   على إنكار الخطأ وأمر المسلمين بتجنبه، قائلا لهم: ما أمرتكم بقتال  في الشهر الحرام، ووقف  التصرف  في العير والأسيرين اللذين جاءت بهما سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه[[12]] وذلك بعد إخبار الله تعالى  لنبيه صلى الله عليه وسلم  بهذا الأمر،  يقول الله تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُم إِنِ اسْتَطَاعُواْ، وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ][[13]].

    مشكلتنا اليوم أنه يوجد أفراد  من بين جلدتنا يتكلمون بلساننا ويدينون بديننا، ويقرؤون قرآننا، يدعون أن قتل الآخر الغير المسلم جهادا، وان التعامل مع الحضارات الأخرى هو نوع من الولاء لغير الله تعالى، وأنه لا يصلح لهذه الأمة إلا ما صلح به أولها فهما وتنزيلا واستقراءا واستنباطا، وان المسلم ينبغي أن يكون حريصا  على الموت في سبيل الله أكثر من الحياة في سبيل الله، كما أن موقف هذا الفكر من كثير من القضايا والأسئلة مازال غامضا، إن لم نقل معاديا ومتحاملا، من قبيل حقوق الإنسان، حقوق الاقليات، حقوق المرأة، آليات المشاركة في تدبير الشأن العام، (…) هذه الأفكار والتصورات موجودة عند بعض المسلمين وبعض الجماعات، وبالتالي، يتعين على الأمة بواسطة علمائها ومؤسساتها أن تعمل على تجديد الفهم والخطاب من اجل إعادة الأمور إلى نصابها، ومن تم يكون من أحرز قصب السبق في طرح موضوع تجديد الخطاب الديني ليس مهما.

    الاتجاه الثالث:  يعتبر أن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني في هذه الظروف الدولية الراهنة  يجب أن تصاحبها دعوة أخرى إلى  تجديد البنى والهياكل والعلاقات الاجتماعية والسياسية والإقتصادية والدينية من أجل تجاوز أزماتنا العميقة والمتعاقبة وذات الأبعاد المتعددة. فلا يمكن تمثل ملامح تجديدية للخطاب الديني في ظل تعفن اقتصادي واجتماعي وسياسي، على اعتبار أن هذا الخطاب في حقيقته لا يعكس إلا صورة الوعاء الذي يخرج منه، أي الفضاء العام  وطبيعة شبكة العلاقات السائدة فيه. 

    هذا الاتجاه يرى في  الدعوة الأمريكية إلى تجديد الخطاب الديني رسالة مشفرة إلى جميع الأنظمة العربية والإسلامية من أجل تغيير أنماط   التسيير السياسي والإداري  التي مازال أغلبها يحن إلى سنوات الرصاص والعنف والقمع الذي مورس في سنوات الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي في كثير من دول العالم العربي والإسلامي.

    وبذلك تكون هذه الدعوة قد نجحت  لأنها استطاعت أن تؤثر في الرأي العام الدولي الرسمي، خصوصا المسؤولين العرب والمسلمين، الذين أبدوا استعدادهم لمنح هامش اكبر من الحريات، واعتماد ثقافة حقوق الإنسان كما هو منصوص عليها دينيا، ومتعارف عليها عالميا. وتفعيل مبدأ المساءلة، وتقوية دوافع المشاركة في إطار من الشفافية والوضوح.

    من خلال ما سبق، وباسم  التفاؤل،  يمكن القول أن هذه الاتجاهات الثلاث تتكامل فيما بينها، وتحفظ للامة الإسلامية توازنها  من خلال امتلاك جميع الأوراق التي تبوئها موقعا رياديا، وتبعدها من مواقع الانهزامية، ذلك أن التنوع والتعدد في المواقف والآراء يكون في جوهره خادما  لا معيقا. لكن هذا التنوع والتعدد لا يمكنه أن ينتعش إلا في إطار  نسبية المعرفة و الفكرة، أما إذا حصل العكس، فان الاتجاه الأول، الذي سبقت الإشارة إليه، يبقى قنبلة موقوتة مرشحة للانفجار في أية لحظة، تاركة وراءها الكوارث والويلات، سواء منها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية أو الدينية والفقهية، ويكون الخطاب ساعتها هو الذي يضغط على زر الانفجار.


[1] [سورة آل عمران /الآية110]

[2] [كتاب الملاحم، سنن أبي داود، موسوعة الحديث الشريف: الكتب الستة، ، ص1535، ط1، 1420-1999-،دار السلام للنشر]

[سورة المائدة/ الآية 3][3]

[4][تجديد المعرفة الإسلامية: المفهوم والآفاق، د.طه جابر العلواني،مجلة دار الحديث الحسنية العدد16ـ 1419/1999، ص209]

[5][ابن الجوزي، مناقب أمير المومنين عمر بن الخطاب، تحقيق دة زينب القاروط، ص92 ،ط1، 1400هـ دار الكتب العلمية]

[6][نفس المرجع السابق، ونفس الصفحة]

[جامع الترمذي، العلم عن رسول الله،موسوعة الحديث الشريف: الكتب الستة، ص1921،ط1، 1420-1999، -،دار السلام][7]

[8][تجديد المعرفة الإسلامية: المفهوم والآفاق،د.طه جابر العلواني، مجلة دار الحديث الحسنية العدد16 ـ 1419/1999، ص211

[د.يوسف القرضاوي، من أجل صحوة راشدة تجدد الدين، وتنهض بالدنيا، ص17،المكتب الاسلامي][9]

[10][التجديد في الإسلام ، سلسلة تصدر عن المنتدى الإسلامي، ص 65 وبعدها ، ط 3 ، 1419-1999]

[د. محسن عبد الحميد، من أئمة التجديد الإسلامي، مكتبة أسام بن زيد الرباط، ط 1 ، 1407 ـ 1986][11]

[12] [المباركفوري، الرحيق المختوم، ص 181، ط1  ، 1411-1991، دار الفكر]

[13] [سورة البقرة / الآية 215]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى