الخطاب الديني وأسئلةالحاضر
إن بلورة خطاب ديني إسلامي راشد وصالح للناس، ومناســب لزمانهم وحالهم، يتطـلب معرفة حسنة بالمبادئ والقواعد الشرعية التي اعتمدتها الشريعة الإسلامية، إلى جانب حصول قدرة علمية تمكن من ربط أحكام الشرع بمقاصد الشارع منها، التي لن تكون إلا داعمة وحارسة لمصالح الناس.
غير أن النظر في مقاصد الشريعة ومصالح الناس، والبحث عن نقط الالتقاء والتقاطع فيما بينهما، يجعل من الخطاب الديني أداة بانية، ووسيلة فعالة لإعادة الاعتبار للشريعة الإسلامية في أذهان الناس وواقعهم، من حيث قدرته على صياغة وتقديم الأجوبة المناسبة لمختلف المستجدات والتحديات والقضايا التي يعيشها مسلم هذا العصر. إن الحديث عن الخطاب الديني الإسلامي وإمكانية تجديده، يندرج في إطار الحديث عن الدعوة الإسلامية، تحملا وتبليغا، وإقامة للشهادة للناس وعليهم، ارتباطا بقول الله تعالى:[كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُومِنُونَ بِاللّهِ][[1]]، إنه تكليف جماعي ومفتوح يسع أمة النبي صلى الله عليه وسلم، قصد خلق الدافعية الإيجابية الكفيلة بنشر دين الله تعالى وفق مراد الله تعالى، ومقصود شرعه ونهج نبيه صلى الله عليه وسلم.
لقد شاءت حكمة الله تعالى ألا يبقى رحم النبوة ولودا بعد النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وتجلى ذلك في توقيف الوحي، أي توقيف أبدي للتصويب والتوجيه والتسديد السماوي، وبذلك نقل فضل النبوة وأجر وظيفتها إلى كل مسلم ـ دون اصطفاء مباشر من الله عز وجل ـ أدى شرط الله في الانتماء لخير أمة، أي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وآمن بالله.
إن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى آليات عملية ووسائط دعوية، أقلها البيان باللسان، وعمل اليد، فرديا كان أم جماعيا، وهذا هو جوهر موضوع الخطاب الديني الإسلامي.
إن تعزيز تواجد الدين في حياة المجتمعات البشرية اليوم، أصبح مرتبطا بمدى قدرة الخطاب الديني عن الإجابة على كثير من الأسئلة الراهنة، وهي أسئلة المرحلة، ليست بالضرورة أن تكون أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر بالصيغة التي يتحدث عنها علماؤنا ودعاتنا الأولون، من قبيل تعزيز مبدأ المواطنة واحترام الآخر من حيث تقرير قواعد التعامل مع المخالف، تعميق ثقافة حقوق الإنسان، اعتماد الديمقراطية وتوسيع آلية التداول السلمي والشرعي على السلطة، التجاوب مع مبدأ “الحكامة الراشدة” ومساهمة مكونات المجتمع المدني في تسيير شؤون المجتمع، تأهيل مؤسسات التربية؛ والتعليم؛ ووسائط الإعلام لكي تنخرط في صناعة الحاضر والمستقبل، بيان مساهمة المسجد في الدفع بآلية التنمية المجتمعية الشاملة؛ من دعم الأخلاق العامة وحماية مؤسسة الأسرة؛ وخلق الدافعية والإنتاجية لدى الأفراد والمجتمع،…
من المؤكد أن الخطاب الديني يملك الجواب الكافي عن تلك الأسئلة، ويحوز القدرة على التعبير على ذلك، بوسائله وآلياته الخاصة. لكن هل هو جواب المرحلة؟ وما المساحة التي يشغلها النفس الإيجابي في تركيبته؟ هل يملك إمكانية التعايش مع تلك الأسئلة/التحديات؟ هل هو مضطر في ذلك؟ أم أن في الشريعة الإسلامية ـ التي تعتبر من أهم منطلقاته وغاياته ـ ما يشفع له أن يكون داعما قويا ومدافعا كبيرا عن تلك الأسئلة الراهنة؟
إذا كان الإسلام لم يضيق على نفسه الدائرة، وترك مساحة واسعة تسع كل المستجدات والطوارئ، وذلك من خلال ترفعه عن التنصيص الحصري على كل حادثة. بل إنه كلف العقل المسلم المجتهد بأن يتولى مهمة النظر في مصالح البشرية المتجددة وحاجاتها المستحدثة على ضوء المقاصد العامة للشريعة الإسلامية المنصوص عليها جملة لا تفصيلا. ومن تم يكون خطاب المجتهد خطابا بشريا نسبيا، فهو يحتمل الخطأ والصواب نتيجة تأثر تقديره وترجيحه، سلبا أو إيجابا، بعوامل الزمان والمكان والإنسان.
نعتقد أن النقطة المفصلية التي تحدث، حينما نتلقى خطابا دينيا، لا نكاد نميز فيه مراد الدين وقصده الحقيقي عن مراد الأشخاص منتجي الخطاب، بناء على المقاصد الكبيرة للشريعة الإسلامية، أي حينما تنسب الآراء الشخصية إلى شرع الله تعالى، وتوقع باسم رب العالمين، فتمزج أحكام الإسلام بأحكام الإنسان، وتكون النتيجة في أسوإ الحالات تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله.
فأي خطاب ديني يقدم الإسلام كدين جامد، لا يحيى إلا بالارتماء في أحضان قرونه الأولى، وأن شغله الشاغل هو استنساخ تجربة السلف الصالح لهذه الأمة، بشكل سقيم، والركون إلى الأرض انتظارا لظهور علامات الساعة وأماراتها… لن يكون إلا خطابا ميتا، غير قادر على إنتاج الحياة في شرايين المجتمعات.
تبعا لأهمية تناول هذا الموضوع وتحليله، ثمة أسئلة كبيرة وعميقة تؤسس لموضوع تجديد الخطاب الديني، ننشرها على الشكل التالي: ما معنى الخطاب عموما؟ والخطاب الديني تحديدا؟ ماذا نعني بتجديد الخطاب الديني؟ وما هي أهداف وغايات هذا التجديد؟ لماذا يطرح موضوع الخطاب الديني في هذا الوقت بالذات؟ أو بصيغة أخرى متى يتم تجديد الخطاب الديني؟ وكيف يتم ؟ ومن يقوم بذلك ؟.
وان كنا لا ندعي أننا أحرزنا قصب السبق في طرح هذه الأسئلة وتداولها، فهي متحررة من أي شبهة التحيز والانتماء، فهي قد صيغت على وجه طلب البيان والتفصيل. فالسؤال عن ماهية الخطاب الديني يضعنا حتما أمام ضرورة تحليل معناه وبيان أهدافه، في حين أن البحث عن دواعي تجديد الخطاب الديني وأسبابه؛ وهو متن السؤال ” لماذا “، هو الذي سيرسم المعالم الكبرى لخريطة الجواب والبيان؛
أما السؤال الكبير عن الكيفية والطريقة التي من خلالها يتم تجديد الخطاب الديني فهو يحدد ويؤسس للآليات والضوابط والمحددات؛
بقي السؤال عن الشخص، سواء كان طبيعيا أو اعتباريا، المعني بتجديد الخطاب الديني، وفي ارتباطه بعنصر الزمن ” من ومتى ” يضعنا أمام تحديد المسؤوليات، وتحميل كل طرف مقصود بهذا الموضوع، ما يمكن أن يساهم به في إثراء الخطاب الديني، بما يوافق مقصد الدين وشريعة الله تعالى.
بغية التفصيل في تحليل الجواب عن تلك الأسئلة وتلك التي ستتناسل منها، نرى ضرورة التمهيد بأسئلة مفاتيح لعلها تكون بلسما في رسم معالم هذا الموضوع. وهي على الشكل التالي:
- تجديد الخطاب الديني هل هو سؤال قديم زمنيا؟
- هل كان النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعده الخلفاء الراشدون مجددين للخطاب الديني، وكيف كان ذلك ؟
- كيف كان التعامل مع تجديد الخطاب الديني في القرون التي تلت فترة الخلفاء الراشدين؟
- كيف كانت مساهمة المغرب في عملية تجديد الخطاب الديني؟
- هل الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني المطروحة بالصيغة الحالية، كانت استجابة لإملاءات خارجية؟
[1] [سورة آل عمران /الآية110]