المقالات العلمية

المجددون للخطاب الديني عبر التاريخ

بسط القول على أن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني ظلت مطروحة ومثارة داخل العالم الإسلامي منذ أكثر من قرن، ففي السياق الزمني العام، يمكن التأكيد على أن  اشتغال الأمة على موضوع تجديد الخطاب الديني انطلق من  حضن  القرون الأولى من تاريخ  الأمة الإسلامية، نتيجة تعدد مداخل ومخارج  الحضارة الإسلامية وتوسع شبكة العلاقات والمعاملات،  وتزايد اهتمام الناس بالإسلام في مختلف الأزمنة والأمكنة.

    إذن فتجديد الخطاب الديني هو حديث قديم، وسؤال قديم زمنيا، ورد في كتب الحديث والفقه والفكر الإسلامي، وتحدث عنه المحدثون والفقهاء  والعلماء منذ القرون الأولى التي تلت حياة النبي صلى الله عليه وسلم، متخذين ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[ إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها][[1]]، سندا ومرتكزا للتأسيس لخطاب التجديد المواكب لمستجدات الحياة الإسلامية.


    حتى إن الحديث النبوي الذي سبقت الإشارة إليه، لقي تعاملا خاصا من طرف المحدثين والفقهاء، وهم يحاولون الإجابة عن المقصود الحقيقي بعملية التجديد وارتباطها بعنصر الزمن المحدد في قرن، هل يمكن التمييز بين التجديد الذي يطال الدين الذي هو الإسلام الهدي المنزل من عند الله تعالى، وبين التجديد الذي يكون موضوعه الخطاب الديني باعتباره وسيلة ناقلة وحاملة للدين إلى الناس، تتأثر كغيرها من الوسائل بظرفي الزمان والمكان؟.

مقالات ذات صلة

    هل تجديد أمر الدين ينفي صفة الصلاحية الزمانية والمكانية للدين؟ أم أنه يختلف باختلاف الزمان، ويتنوع بتنوع المكان؟ هل أحوال الأمة الإسلامية تتغير، وظروفها تتجدد في كل قرن، مما يستدعي حضور الشخص المجدد، محدثا أو فقيها أو عالما كان، أو مجمعا فقهيا، أو مؤسسة فكرية علمية؟.

    إن الرجوع إلى  تاريخ المسلمين، يسعفنا في  الكشف على أن رحم الأمة الإسلامية كان ولودا من حيث عدد المجددين لأمر الدين وخطابه، منذ خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه  إلى الزمان الذي نحياه الآن، من أجل تكييفه مع شروط العصر وفق مقاصد الشارع، وعليه اصبح  العلماء يتحدثون عن حركات تجديدية ترشيدية وتصويبية لهذا الشأن، كانت تظهر من وقت لآخر استجابة لحدوث أنماط حياة وفكر لم تكن معهودة في عصر النبوة المسدد بالوحي.

    فمنذ القرن الأول الهجري، وأفهام المسلمين تتجدد يوما بعد يوم، تبعا لمستجدات الحياة وظروفها، من قبيل  انفتاحهم على بعض الحضارات، وفتحهم لبعضها الآخر، واختلاط ثقافتهم العربية الإسلامية  بالثقافات الأخرى كالفارسية والرومية والأندلسية، ومرورا بغزو التتار لبغداد ونهبها وتدمير كتبها وآثارها، ونوازل أخرى تركت بصماتها واضحة على حياة المسلمين، ووصولا إلى الاستعمار العسكري الذي شمل جل بلدان المسلمين في القرن الماضي، فإلى جانب إفقار الدول الإسلامية المستعمرة، انصب اهتمام الدول الاستعمارية على إغتيال قدرة المجتمعات الإسلامية على المقاومة والصمود، وتطويعها لكي تكون خادمة مطيعة  وتابعة منفذة.

 

    أما على مستوى الكتابات التي تناولت موضوع تجديد الخطاب الديني، ذهب عدد كبير من المصلحين و المجددين في اتجاه مناصرة وتأييد صلاحية الإسلام زمانا ومكانا وإنسانا،  وذلك عن طريق تجديد الخطاب الديني باعتباره كلام بشري حامل وناقل لخطاب الشريعة الإسلامية إلى عموم الناس. ومن جملة هؤلاء الذين تناولوا موضوع  تجديد الخطاب والفكر الدينيين في القرن الذي ودعناه، نجد محمد إقبال صاحب كتاب “تجديد الفكر  الديني في الإسلام“، وقد يعتبر هذا المؤلف من أوائل اللبنات التي وضعت في هذا البناء، ثم سارت على منواله كتب أخرى تناولت ذات الموضوع، مثل  كتاب”المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر” لعبد المتعال الصعيدي، و”المجددون في الإسلام” لأمين الخولي، و”تجديد الفكر الإسلامي” لمحسن عبد الحميد، و”العمل الديني وتجديد العقل” للدكتور طه عبد الرحمان، و”معالم الخطاب الإسلامي” لعبد الوهاب المسيري، وربما يكون آخر من كتب في موضوع تجديد الخطاب الديني الشيخ  يوسف القرضاوي، حيث ألف كتابا صدر  في سنة 2004 يحمل اسم:”خطابنا الإسلامي  في عصر العولمة” و الأستاذ محمد بن شاكر الشريف “تجديد الخطاب الديني بين التأصيل والتحريف“.

ثانيا: فترة النبوة وعهد الخلافة الراشدة

    إذا كنا نتحدث عن تجديد الخطاب  بصفة عامة، فيمكن القول أن جميع الأنبياء والرسل  شاركوا في هذا التجديد، حتى اكتمل بيت النبوة بإضافة آخر لبنة من بني هاشم بمكة المكرمة.  وهذا ما بينه القرآن الكريم بنفسه، حينما تحدث عن طريقة وأسلوب كل نبي على حدة في تبليغ  رسالة الله تعالى، لان الظروف المكانية والزمانية  كانت تؤثر  في  لون الخطاب الديني، إن كان نوح عليه السلام استغرق في دعوته ألف سنة إلا خمسين  يدعو قومه ليلا ونهارا، سرا وجهرا، من اجل إسماعهم كلمة التوحيد، فان  نبي الله ابراهيم  عليه السلام  قام بجولات دعوية  كبيرة مع كبراء القوم  وسادتهم، أما  دعوة لوط عليه السلام فتميزت بمحاربة الفساد الأخلاقي الذي استشرى في القوم.  في مقابل اتسمت  دعوة كل من نبي الله يوسف وشعيب عليهما السلام،  بالمطالبة   بالإحسان في المعاملات والعلاقات الاقتصادية بين الناس. ووصلت دعوة الحق ذروتها من خلال مناصرة قضايا المستضعفين  مع موسى وهارون عليهما السلام، حينما وقفا أمام فرعون لنهييه عن ظلمه واستخفافه بالناس. وأكتمل بيت النبوة بدعوة عيسى  ومحمد عليهما  الصلاة و السلام تباعا،  بقي أن نشير إلى  أن الأنبياء الآخرين الذين لم يتم ذكرهم، هم كذلك  ساهموا في إقامة صرح  النبوة، كل حسب ما  أريد له من قبل الله تعالى. وبذلك  تكاملت  أدوارهم  وكمُـلت مهامهم، وكان ختامها قولُ الله تعالى: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِسْلاَمَ دِيناً][[2]] .

    وهذا هو الرأي الذي ذهب إليه الدكتور طه جابر العلواني  وهو يتحدث عن تجديد الدين في حضن الأنبياء عليهم السلام، حيث قال:[التجديد ـ قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ كان رسالة الأنبياء، فكلما جاء رسول إلى أمة وفترت رسالته جدد الله سبحانه وتعالى صلة تلك الأمة برسالتها عن طريق إرسال رسول آخر يجدد لها دينها[[3]].

    أما إذا انصب الحديث عن تجديد الخطاب الديني  بصفة خاصة في حياة النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فيمكن القول على أنه من الثابت عند المسلمين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مجددا بالمعنى الذي نتحدث عنه للتجديد، وذلك من حيث:

    1-:  اعتبار وظيفته صلى الله عليه وسلم  كانت هي التبليغ عن رب العالمين بواسطة الوحي المشتمل على آيات محكمات قطعيات وأخرى متشابهات ظنيات، دون نقص أو زيادة.

    2-: ارتباط القرآن، الذي هو خطاب الله تعالى وكلامه، بأسباب النزول كان مناسبا وملائما للمرحلة التي وجد فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فغالب حركاته ومواقفه كانت مسددة بالوحي إلى حين التحاقه بالرفيق الأعلى.

    3-: افتراض الحديث عن التجديد لا يكون إلا بعد أن يصاب الشيء موضوع التجديد بالقدم، أو أن يصبح متجاوزا، وعاجزا عن تجاوبه واستجابته للحظة التاريخية التي يحياها. وهذا ما لم يقع فيه خطاب النبي صلى الله عليه وسلم.

    لكن  حينما نتأمل   الكيفية التي نزل بها القرآن الكريم وتدرجه تبعا لخصوصية المرحلة المكية و المرحلة المدنية،  واعتماده على آلية النسخ  في كثير من الأحيان، واقتران نزوله بأسباب مادية مبررة، ووقائع  مكشوفة، يتبين أن الإسلام في حد ذاته هو دين التجديد والتطوير والمواكبة، وأنه يعيش اللحظة التاريخية بعينها، ولا يتجاوزها أو يتجاهلها.

    بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والتحاقه بالرفيق الأعلى، واكتمال بيت النبوة، وتوقف الهدي السماوي، والتسديد والتصويبب الإلهي،  يأتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كأول خليفة للمسلمين، لكي يسوسهم ويقودهم دينيا ودنيويا، دافعا عنهم المفاسد والمضار، جالبا لهم المصالح والمنافع. لكن المرجعية المعتمدة هذه المرة في تقدير المفسدة والمصلحة ليست هي الوحي، إنما هي العقل والنظر في نصوص الشريعة الإسلامية القطعية منها والظنية. والعمل على تحقيق المطابقة بين النص والواقع، مما يعني إمكانية حدوث الإصـابة والخـطأ.

    وتبعا لقلة المتغيرات والمستجدات وضعف تأثيرها على مدة خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، نجد أن التاريخ قد سجل لهذا الرجل زهده في إنتاج أي تفكير جديد من شأنه أن يجيب عن بعض الأسئلة التي ارتبطت بعهده، حتى عملية جمع القرآن وتدوينه حصل فيها  تعثر بدعوى انه عبر عن خشيته في بداية الأمر، من كونه سيقدم على عمل لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقحما نفسه في دائرة البدعة المؤدية إلى الضلالة ثم إلى النار.

    مباشرة بعد موت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وتحمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مسؤولية الخلافة ظهرت تحديات اجتماعية سياسية واقتصادية كبيرة تطلبت جرأة ايجابية في المعالجة، وتناولا حسنا  لمختلف القضايا المستجدة، دون المس بثوابت الشريعة الإسلامية وقطعياتها، فعلى سبيل المثال، نذكر بعض التدابير  التي أقدم عليها الفاروق رضي الله عنه، من قبيل عدم توزيع أرض سواد العراق على المقاتلين، وفرض الخراج بدلا عنها، معللا ذلك بالحرص على الحفاظ على مصلحة المسلمين، نساء ورجالا، حاضرا ومستقبلا، وأن الشريعة جاءت مقدمة المصلحة العامة على المصلحة الخاصة؛ فتوزيع الأراضي المفتوحة حصرا على المقاتلين قد يحرم المسلمين الغير المقاتلين من الضعفاء والنساء والأطفال من هذا الخير، كما أنه يعتبر سببا في إثراء البعض على حساب البعض الآخر، مما قد يحدث فوارق اجتماعية صارخة في جسم الأمة الإسلامية. فضلا عن إضعاف خزينة الدولة من خيرات تلك البلدان المفتوحة.

    [عن ابراهيم التيمي قال: لما افتتح المسلمون السواد، قالوا لعمر بن الخطاب رضوان الله عليه اقسمه بيننا، فأبى، فقالوا: إنا فتحناه عنوة، قال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ فأخاف أن تفاسدوا  بينكم في المياه، وأخاف أن تقتتلوا، فأقر أهل السواد في أرضهم وضرب على رؤوسهم الضرائب ـ يعني الجزية ـ وعلى أرضهم الطسق ـ يعني الخراج ـ  ولم يقسمها بينهم][[4]] [وعنه أنه قال: لولا أني اترك الناس يبابا لا شيء لهم ـ ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر][[5]].

    كما أنه أيضا، أوقف توقيع حد السرقة في عام المجاعة معتبرا أن هناك شبهة عامة، وهي أن الناس يسرقون إنقاذا لأنفسهم من خطر الجوع، والقاعدة العامة في باب الحدود تقول: ادرؤوا الحدود بالشبهات.

    أما نظره رضي الله عنه في موضوع المؤلفة قلوبهم، انطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه من علة إحداث هذا الصنف من الناس، المقتصرة على تأليف قلوب بعض الأفراد وتحبيبهم في الدخول إلى الإسلام، إلا أن هذا الذي   ألف قلبه لن يمكث أبد الدهر معتبرا نفسه من المؤلفة قلوبهم، وبالتالي فان مقصد الشارع سيفوت وسيضيع، وعليه منع عمر بن الخطاب بعض الناس من أن يضلوا  مؤلفة قلوبهم إلى حين وفاتهم.

    هذه بعض الأمثلة المبثوثة هنا وهناك في كثير من كتب العلم والفقه، وسبب ورودها هو بيان أن النفس التجديدي انطلق منذ العقود الأولى من تاريخ أمة السلام، مرتكزا على النصوص المحكمة وثوابت الشريعة، وموظفا مرونة وسعة الدين  وخاصيته التي تؤهله دينا عالميا صالحا لكل زمان ومكان ومناسبا لكل إنسان.

    ولا نحتاج إلى ذكر أن فهم وعمل وخطاب الخلفاء الراشدين يدخل في عموم  الحديث الذي روي عن طريق العرباض بن سارية الذي قال: [قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فوعظنا موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقيل يارسول الله وعظتنا موعظة مودع فاعهد إلينا بعهد فقال عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا وسترون من بعدي اختلافا شديدا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم والأمور المحدثات فإن كل بدعة ضلالة][[6]]  

    وعليه يكون احتضان عصر الخلفاء الراشدين لبذور تجديد الفهم وإعادة النظر في بعض النصوص الظنية التي تحتمل اكثر من معنى وتأويل، على ضوء النصوص الثابتة والقطعية، بمثابة إجازة نبوية لعملية التجديد وطرق أبوابها كلما استجد طارئ، ودعت إليه ضرورة من الضرورات المقدرة والمعتبرة.

ثالثا: ما بعد فترة الخلفاء الراشدين

    بعد عصر الخلفاء الراشدين المشهود له بالسير على منهاج النبوة، تتابعت سلسلة أئمة التجديد، تبعا لمستجدات فقهية، علمية، كلامية، اجتماعية، اقتصادية وحتى سياسية،(…) طرأت على واقع المسلمين، حيث تطلبت تدخل العلماء والفقهاء بفقههم وعلمهم وخطابهم المناسب لتلك المستجدات. إلا أن ضوابط التجديد وتعريف المجدد لم تكن محددة وواضحة، لسبب بسيط هو أن لا أحد من المسلمين  يملك تفويضا إلهيا يمكنه من تعيين الشخص أو نعته بالمجدد أو تحديده للقيام بهذه المهمة، ولذلك تضاربت وجهات نظر الناس حول ترشيح وترتيب بعض الفقهاء والعلماء لنيل درجة المجدد تبعا لمساهماته في إغناء الفهرسة الإسلامية، أو قيامه بأعمال ما زال تراث الأمة الإسلامية شاهدا لها، ومعترفا بفضلها وسبقها المعرفي.

    من جملة من تناول موضوع  الحديث عن  أئمة التجديد نجد الإمام السيوطي الذي رتبهم، وفق المنهج الذي ارتضاه لنفسه، على الشكل التالي :  

مجدد القرن الهجري الأول هو الخليفة  عمر بن عبد العزيز؛

القرن الثاني هو الإمام الشافعي؛

القرن الثالث : ابن سريج؛

القرن الرابع إمام الحرمين الجويني؛

القرن الخامس  حجة الإسلام الغزالي؛

القرن السادس : فخر الدين الرازي؛

القرن السابع:  ابن دقيق العيد؛

القرن الثامن : سراج الدين البلقيني أو الحافظ  زين  الدين العراقي.

[ليصل بنا  السيوطي إلى عصره مبديا تطلعه إلى أن يكون هو مجدد القرن الذي عاش فيه[[7]]، وقد نظم قصيدة في هذا الشأن[[8]]، نأخذ منها الأبيات التالية:

 لقد أتى في خبر  مشـــــــتهر           رواه كل عالـــــــــــم معتبر

 بأنه في رأس كل مائـــــــــة            يبـــــــــعث ربنا  لدين الأمة

منا عليها عالمــــــــــــا يجدد            دين الهــــــدى  لأنه مجتــهد

فكان عند المائة الأولى  عمر            خليــــفة العدل  باجمــاع وقر

والـــــشافعي  كان عند الثانية            لما له  من العلــــوم السامية

وابن سريــــــــج ثالث الأئمة           والأشـــــــــعري عده من أمه

والباقـلاني  رابع  أو سهل أو          الاســــفراييني، خلف قد حكوا

والخامس  الحبر هو الغـزالي          وعده ما فيه من جــــــــــــدال

والسادس الفخرالامام الرازي          والرافـــــــــــعي  مثله يوازي

والسابع  الراقي الى المـراقي          ابن دقــــــــــــيق العيد  باتفاق

والثامن  الحبر هو البلقــــيني          أو حافظ  الانام زين الديــــــن

(…)

وهذه تاسعة  المئــــــــــين قد          أتت ولا يخلف ما الهادي وعد

وقد رجوت انني المـــــــجدد          فيها ففضل  الله ليس  يجــــحد

    وهناك ترتيب آخر جاء على الشكل التالي :

    [الحركة التجديدية الأولى عمر بن عبد العزيز والإمام الشافعي والإمام احمد بن حنبل وابن تيمية  ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب][[9]]

    في مقابل نجد أن الدكتور محسن عبد الحميد، يذكر الأسماء التالية ويعتبرهم من أئمة التجديد الإسلامي: [محمد بن عبد الوهاب، محمد إقبال، سعيد النورسي][[10]]

    إن الأسماء التي تم ذكرها، وغيرها كثير، لا تحظى بقوة إجماع الأمة الإسلامية، فعلى سبيل المثال، نجد أن أغلب الذين ذكرهم الإمام السيوطي ينتمون إلى المدرسة الشافعية، ومنه يتضح أن عملية اختيار المجدد وترشيحه لحمل لقب مجدد القرن، على العموم، ما زالت أسيرة ولاء مذهبي، وقرب معرفي،  وعليه يمكن القول أن لكل زمان ومكان أئمته في التجديد، سطع نجمهم في مجال من المجالات المعرفية الحية، وان اختلفت مذاهبهم الفكرية والفقهية.

    إن كان الحديث عن موضوع التجديد وأئمة التجديد  في إطاره العام ضروريا من أجل بيان الفضاء ورسم الحدود والمعالم التي يمكن الاشتغال في نطاقها، فان تجديد الخطاب الديني كأحد الأوراش التي اشتغل عليها فكر التجديد مدة طويلة من الزمن، يعتبر ترجمة حقيقية وحية للدين نفسه، وخدمة جليلة للدعوة إليه، فبواسطة الخطاب الديني يتعرف الناس على الدين، ويرسمون طريقهم في التدين، وبقدر انفتاح الخطاب الديني ينفتح الناس، وينغلقون على أنفسهم وعلى محيطهم إذا كانوا يتلقون خطابا منغلقا يؤخر ولا يقدم. لذلك كان لا مناص من اهتمام المجددين بالخطاب الديني، واعتباره أولوية من الأولويات التي لا تحتاج إلى تأخير، سيما إذا تم اعتبار أن مفتاح خروج المسلمين  من تخلفهم وعجزهم هو إنتاج خطاب ديني جديد،  قادر على نفخ الحياة من جديد في أوصالهم وخلق الدافعية عندهم من أجل الإقدام لا الإحجام.

    والواقع أن الدعوة إلى مراجعة الخطاب الديني ليست وليدة ظروف خارجية طارئة أو مستجدة، بل لها جذورها المستمرة في واقع الأمة وقضاياها الملحة، وهى دعوة مثارة داخل العالم الإسلامي منذ قرنين على الأقل، نتيجة عدة أسباب وعوامل خارجية وداخلية نجملها فيما يلي:

    1-  الحملة الفرنسية على مصر من 1798 إلى 1801 وما أثارته من أسئلة،  نظرا لموقع مصر في تلك الحقبة وما تشكله من مركزية عربية وإسلامية، فهي بمثابة القلب من الجسد، وتعرضها للحملة الفرنسية كان يعني أن الأمة الإسلامية قد خارت قواها، وأنها أصيبت في مقتل، مما كان له الأثر الكبير في المناداة على تحفيز الأمة وبث روح المقاومة والصمود انطلاقا من تجديد الخطاب والبيان والكلام الديني؛

    2- إلى جانب الغزو العسكري الذي صاحب الحملة الفرنسية، حصلت لدى بعض المسلمين صدمة قوية بسبب مفاجأته مما أحرزه الغرب من تقدم علمي وعسكري واقتصادي، في مقابل انبهر البعض الآخر ساعيا إلى استنساخ التجربة الغربية  ونقلها إلى العالم الإسلامي نقلا حرفيا؛

    3- ضعف الدول الإسلامية بما في ذلك  الدولة العثمانية وعجزها وجمودها، كان سببا قويا في إتاحة الفرصة أمام الدول الغربية  من أجل استعمارها وغزوها، وما يتبع ذلك من استغلال خيراتها، وإذلال مواطنيها، وإغتيال كل إرادة في المقاومة والتحرير.

    نتيجة لهذه الأسباب والعوامل الخارجية والداخلية، بدأ الخطاب الديني الإسلامي يتشكل، ويرسم معالمه، وتمت بلورة مشاريع إصلاحية قائمة على خطاب إصلاحي جديد يناسب خطاب المرحلة المطلوب، فكان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده من الأوائل الذين حملوا مشعل الإصلاح والتجديد في الفكر والخطاب الدينيين، حيث تراوح مشروعهما بين إصلاح الشأن السياسي والشأن الديني.

    إذا كان الأفغاني قد هاجم الاستبداد وطغيان الحكام من زاوية إصلاحية ترمي إلى إعادة النظر في وظيفة السياسة الدافعة لكل مفسدة والجالبة لكل مصلحة دينية أو دنيوية، فإن  محمد عبده  بدوره اتجه إلى المطالبة بتجديد في الشأن  الديني من خلال الحض على المزاوجة بين العلوم الدينية والعصرية والسعي لتمكين الأمة، و ترك التقليد وإفساح المجال أمام العقل المسلم لكي يساهم في إنجاز مشروع البناء والتقدم، بدلا من الإبقاء على أسره في سجون عصور الانحطاط مكبلا بخطاب غير صالح لا زمانا ولا مكانا ولا إنسانا. وتم إطلاق أول لبنة في هذا المشروع من خلال تكوين جمعية العروة الوثقى في باريس التي بدأت في إصدار مجلة تحمل نفس اسم الجمعية.

    أما رشيد رضا، وهو من أكبر تلامذة محمد عبده، فقد سلك نفس مسلك أستاذه مضيفا إليه روحا جديدة في الإصلاح، حيث أصدر العدد الأول من مجلة المنار التي اتخذها سندا في تبليغ خطابه الديني القائم على الدعوة إلى الإصلاح الديني والاجتماعي للأمة الإسلامية، من حيث الرد على كثير من الشبهات المثارة آنذاك والمشوهة   لحقيقة الإسلام ودوره في الحياة الاجتماعية.

    كما أن التاريخ سجل مساهمة قيمة لعبد الرحمان الكواكبي من حيث إصداره لكتابين، الأول يحمل اسم : “طبائع الاستبداد” والثاني يحمل اسم: “أم القرى“، اللذين  شكلا في تلك اللحظة التاريخية تجديدا للخطاب الديني وارتقاء به من خانة الحديث عن محاربة البدع والخرافات إلى المساهمة في إقامة صرح الدول وتأهيلها سياسيا عبر بوابة  إشاعة العدل.

    إن كان عبد الرحمان الكواكبي يلتقي مع جمال الدين الأفغاني في جوهر الدعوة الموجهة إلى إصلاح السياسة وإكسابها خلق العدل، فانه بحق يمكن الإشادة بالمستوى الذي وصل إليه إنتاج الكواكبي من خلال سبقه المعرفي في تحليل الاستبداد سياسيا و دينيا، وبيان دوافعه  وطبائعه (كتاب طبائع الاستبداد)، واقتراحه لأول تصور عن خلق أممية إسلامية جامعة لشتات الدول العربية  والإسلامية (كتاب أم القرى).


[1] [كتاب الملاحم، سنن أبي داود، موسوعة الحديث الشريف: الكتب الستة، ، ص1535، ط1، 1420-1999-،دار السلام للنشر]

[سورة المائدة/ الآية 3][2]

[3][تجديد المعرفة الإسلامية: المفهوم والآفاق، د.طه جابر العلواني،مجلة دار الحديث الحسنية العدد16ـ 1419/1999، ص209]

[4][ابن الجوزي، مناقب أمير المومنين عمر بن الخطاب، تحقيق دة زينب القاروط، ص92 ،ط1، 1400هـ دار الكتب العلمية]

[5][نفس المرجع السابق، ونفس الصفحة]

[جامع الترمذي، العلم عن رسول الله،موسوعة الحديث الشريف: الكتب الستة، ص1921،ط1، 1420-1999، -،دار السلام][6]

[7][تجديد المعرفة الإسلامية: المفهوم والآفاق،د.طه جابر العلواني، مجلة دار الحديث الحسنية العدد16 ـ 1419/1999، ص211

[د.يوسف القرضاوي، من أجل صحوة راشدة تجدد الدين، وتنهض بالدنيا، ص17،المكتب الاسلامي][8]

[9][التجديد في الإسلام ، سلسلة تصدر عن المنتدى الإسلامي، ص 65 وبعدها ، ط 3 ، 1419-1999]

[د. محسن عبد الحميد، من أئمة التجديد الإسلامي، مكتبة أسام بن زيد الرباط، ط 1 ، 1407 ـ 1986][10]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى