الحكامة المالية للزكاة والأزمة المالية
الحكامة المالية للزكاة يقصد بها أن يتم التعامل مع الزكاة في سياق الاجتهاد الجماعي للأمة، على أساس اعتبارها موردا لتجميع المخرجات المالية من عند المكلفين وتنويع مصادرها؛ قصد توزيعها على مستحقيها في إطار تعاوني إشراكي تشاركي بين مختلف الفاعلين لترشيد إسهامها في تنمية الاقتصاد وتحسين القدرات المالية للفئات المستحقة للزكاة.
وإذا كانت الأزمة المالية العالمية قد كشفت عن حجم الاختلالات التي عرفتها الاقتصادات العالمية والأسواق المالية، فإن مطلب البحث عن وصفات أو اقتراح بدائل أخرى للمساهمة في تضييق دائرة هذه الاختلالات، يبقى مطلبا ذا راهنية كبيرة. خصوصا وأن المقاربة الإسلامية لموضوع المال في عمومها، تطرح إسهاما حقيقيا لمعالجة واستيعاب تداعيات مثل هذه الأزمات والصدمات.
إلى جانب كون الزكاة فريضة ملزمة للمسلمين الذين تحقق لديهم النصاب من أجل تزكية أموالهم وإخراج جزء منها لصالح الأصناف الثمانية الذين ذكرهم القرآن الكريم، فهي ـ أي الزكاة ـ شريعة المجتمع في تنظيمه المالي والاقتصادي، وذلك من خلال تنمية المدخلات المالية وتزكية المخرجات منها، والحرص على إحداث التوازن فيما بينهما؛ فالزكاة تحتاج إلى ثروات ينتجها المجتمع، وتحرص على أن تبقى هذه الثروات مفتتة ورائجة ومتداولة بين الناس، للوصول إلى تحقيق التوازن والتكامل المنشود بين مستويات الاستهلاك العام ومستويات الإنتاج.
إن استحضار معطيات الأزمة المالية العالمية، تفيد أن المتغير الحقيقي في هذه الأزمة هو مدى قدرات النظام المالي على إنتاج الثروة وعدم تكديسها، بالشكل الذي يضمن توازنا بين الاستهلاك والإنتاج في المجتمع. ومن جهتنا، نعتبر أن لموضوع الزكاة في الإسلام جاذبية أكبر في إسهامها في تنمية وتعبئة القدرات الاقتصادية والمالية في المجتمع.
وقبل أن نتحدث عن أوجه الجاذبية للحكامة المالية للزكاة، ارتأينا أن ننطلق من بعض المقاربات التي تناولت الأزمة المالية العالمية، لكي نقرر بعدها الخيط الناظم والمتغير الحقيقي لهذه الأزمة.
مقاربات في فهم الأزمة المالية العالمية
يعود السبب الذي فجر الأزمة المالية العالمية إلى سنة 2007، حيث لم يستطع العديد من المستثمرين وغيرهم من المقترضين في الولايات المتحدة الأمريكية، من تسديد ديونهم تجاه البنوك( ما عرف بأزمة الرهون العقارية). الأمر الذي أدى إلى حدوث هزة قوية للاقتصاد الأميركي، وصلت آثارها إلى اقتصادات العديد من دول أوروبا وآسيا، حيث أعلنت مجموعة من المؤسسات المالية العالمية إفلاسها المالي، الأمر الذي دفع ببعض حكومات تلك الدول إلى التدخل لإسعافها ومدها بالإمكانات اللازمة. في مقابل فضلت مجموعة أخرى من المؤسسات المالية الاندماج فيما بينها للوقوف أمام تحديات هذه الأزمة المالية.صالح
تعددت زوايا التحليل والدرس لفهم طبيعة هذه الأزمة المالية العالمية، واستيعاب أبعادها وآثارها، حيث اختلفت المقاربات باختلاف الاتجاهات العلمية والمنهجية المقدمة لتفكيك لوالب هذه الأزمة، وهذه المقاربات يمكن أن نصنفها على الشكل التالي:
المقاربة الأولى: اختزلت الأزمة المالية العالمية في إعطاء حكم عام ومطلق، دون التثبت والتريث ودراسة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى حصول هذه الأزمة؛ حيث اكتفى أصحاب هذه المقاربة بأن ما وقع كان نتيجة البعد عن شريعةِ الإسلام في الاقتصاد وهديهِ في المعاملات المالية الإسلامية، فأجمعوا على أن التعامل بالربا وبالقمار وبالميسر، يستوجب لعنة السماء التي تنزل على كل من يحارب الله ورسوله بفعل الربا وغيره من المنكرات المالية.
المقاربة الثانية: اعتبرت أن الأزمة المالية العالمية التي مست العديد من الدول الأمريكية والأوربية كانت بمثابة إعلان عن دخول هذه الدول مرحلة الشيخوخة التي تعرفها عادة كل الدول والحضارات. فالدورة العمرية ـ أو كما يسميها ابن خلدون الدورة الحلزونية ـ تصيب كل الأمم والدول والحضارات. وبالتالي، فهذه الدول قد استنفذت مخزونها من المناعة، وبدأت خلاياها تفقد مقاومتها لفعل التآكل الطبيعي للزمن؛ وبالتالي فالأزمة المالية، هي أزمة نظام اقتصادي وسياسي، قبل أن تكون أزمة في الأرقام والحسابات، أو في ضعف القدرة التسديدية لبعض المدينين بسبب عدم عن الوفاء بالتزاماتهم المالية تجاه المؤسسات المالية.
المقاربة الثالثة: خلصت إلى أن فهم هذه الأزمة المالية العالمية يتطلب فهم السياق العام الذي وردت فيه، وهو سياق مشحون بالتوترات العالمية والإقليمية، والتوظيف السياسي السلبي للشأن الاقتصادي، الأمر الذي أدى إلى فقدان الثقة في القدرة الائتمانية للمؤسسات المالية العالمية، حيث التجأ الأفراد وبعض المؤسسات إلى تكديس مقدراتهم الادخارية من السيولة، وعدم خوضهم لغمار المخاطرة. فأنهار الاقتصاد، وأنهارت معه القدرات الائتمانية للمؤسسات المالية المانحة للقروض، وما قضية الرهون العقارية إلا وجها من أوجه هذا الانهيار الكلي الذي تعرض له الاقتصاد الأمريكي والأوربي.
ثمة مجموعة من الإشارات التي تلوح في أفق هذه المقاربات التي سلف ذكرها، وهي تفرض نفسها على الباحثين قصد معالجتها بما يلزم، حيث يمكن رصد هذه الإشارات في ما يلي: الربا أو ثقل أسعار الفائدة، احتكار الثروة، فقدان الثقة في الأسواق المالية، الجشع في الاستهلاك… وكل هذه الإشارات تدفع في تقوية جاذبية الشريعة الاقتصادية الإسلامية، وخصوصا الزكاة عند المسلمين، حيث إن الإبداع في الاجتهاد في موضوع الزكاة يساهم في تعزيز حضور الزكاة في السياسات العامة للدول، مع إبراز حجم المساهمة للزكاة في تقوية مناعة الاقتصاد من الأزمات المالية، ومنحه درجات عالية من السلم والطمأنة في مجال الإقتصاد والمال.
أوجه جاذبية الحكامة المالية للزكاة
بناء على تشخيص الأزمة المالية العالمية ـ الذي سبق ذكره ـ واستحضار كل الزوايا والمقاربات التي تناولت الموضوع، يمكننا أن نساهم في إبراز بعض أوجه جاذبية الحكامة المالية للزكاة، وهي التي أجملناها في الوجهين التاليين، وهما الوجه الأولى: إنتاج الثروة وتفتيتها لفائدة المجتمع، والوجه الثاني: ترشيد علاقة الاستهلاك بالإنتاج في المجتمع
الوجه الأول : إنتاج الثروات وتفتيتها لفائدة المجتمع
تتحدد أسس إنتاج الثروات وتفتيتها في ثلاث اتجاهات، وهي:
أولا: استثمار المال لإنتاج الثروة
يختزل البعض دور الزكاة في عملية جباية الأموال من عند الملزمين بأدائها بعدما تتوفر شروطها، في مقابل، لا تظهر الأدوار الأخرى للزكاة، من حيث تنميتها لعين المال المزكى منه، فقديما قالوا بأن “الزكاة تقتل المال”، ومظنة ذلك هو أن المال الذي لا ينتج ثروة مآله النقصان، والوصول إلى أقل النصاب، ومن تم فدور الزكاة الأبدي هو حث المزكي على بذل الجهد من اجل إنتاج الزيادة الكمية في رأس المال، حتى تكون الزكاة على حساب الربح، لا على حساب أصل المال؛ لأن وظيفة المال هو العمل والرواج بين الناس وليس الخمول والركود.
ويعتبر السوق من بين الفضاءات الذي ينتج ثروة، حيث يخضع لقانون العرض والطلب، وفيه يجتهد العارضون في إنتاج سلعهم وخدماتهم، واليه يحج الطالبون لتلك السلع والخدمات، وفي ذلك تتحرك دوالب الدورة الاقتصادية، حيث التشغيل الكامل لعناصر الإنتاج.
وكان أغلب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يمارسون الصفق بالأسواق: والمراد به التبايع، وسميت البيعة صفقة لأنهم اعتادوا عند لزوم البيع ضرب كف أحدهما بكف الآخر إشارة إلى أن الأملاك تضاف إلى الأيدي، فكأن يد كل واحد استقرت على ما صار له[[1]]، ونظرا لما كانت يعرفه السوق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، من شتى ألوان الغش والخداع والاحتكار التي كان يمارسها بعض اليهود، أقام سوقا إسلامية صرفا،لا سلطان لليهود عليها، كما كانت سوق بني قينقاع من قبل، وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أوضاعها، وظل يرعاها بتعاليمه وتوجيهاته، فلا غش، ولا تطفيف، ولا إحتكار، ولا تناجش[[2]].
ثانيا: حرية السوق وخضوعه للمصلحة العامة
من بين عوامل الأزمة المالية العالمية، هو أن مجالات إنتاج الثروة وترويج الأموال ظلت بعيدة عن مراقبة الدولة باعتبارها راعية للمصلحة العامة، حيث سيطرت المجموعات المالية الضخمة على كل الفرص المالية المتاحة، وأصبحت هي المحددة لتوجهات السوق، ففي سوق العقار على سبيل المثال، وهو الذي أجج شرارة الأزمة المالية في الولايات المتحدة الأمريكية أصبح خاضعا للمضاربات والزيادات غير المبررة في أثمنة العقار بدافع الجشع، فكانت النتيجة هو عدم قدرة المستهلك على مجاراة هذا الجشع، فاختل معه التوازن بين مستويات العرض ومستويات الطلب، وحلت الأزمة.
إن السوق في نظر المسلم، هو الذي يفرز بشكل تلقائي نتيجة كمية الإنتاج المعروضة، وكمية الاستهلاك المطلوبة، لكن إذا تدخلت عوامل غير طبيعية كتلاعب بعض التجار بعروضهم وبالأسعار فمصلحة المجموع هنا مقدمة على حرية بعض الأفراد، فيباح التسعير استجابة لضرورة المجتمع أو حاجته، ووقاية له من المستغلين الجشعين[[3]] ، هنا يبرر تدخل الدولة أو أولي الأمر من أجل إعادة الأمور إلى نصابها، وضمان السير العادي والطبيعي للسوق.
ومن جملة الإجراءات التي كانت الدولة الإسلامية تقوم بها، نجد النهي عن “تلقي الركبان”، والتلقي هنا معناه المسارعة إلى اللقاء، والركبان هم الذين يقبلون من البادية أو الريف إلى الأمصار والمدن، ومعهم سلع هم المنتجون لها ويريدون بيعها، ولكنهم لا علم لهم بالسعر المناسب الذي تباع به هذه السلع داخل البلدة أو المدينة(…) فيتلقاهم خارج البلدة تجار أو سماسرة، يخدعونهم عن السعر المناسب، ويستولي هؤلاء التجار على سلع أولئك القادمين بثمن قليل[[4]].
وفي هذا يروي الإمام البخاري في كتاب البيوع، من صحيحه قائلا: حدثنا الصلت بن محمد حدثنا عبدالواحد حدثنا معمر عن عبدالله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد قال فقلت لابن عباس ما قوله لا يبيع حاضر لباد قال لا يكون له سمسارا.
ثالثا: تفتـــيت الثروة وتوزيعها العادل
من بين الخلاصات التي يمكن استنتاجها من عمق الأزمة المالية العالمية، هو أن الثروة قد وصلت إلى مرحلة العجز عن تحقيق التنمية في المجتمع، وأصبحت مجرد ركام من الأموال تم تكديسها، حيث ساهمت في تعميق ظاهرة التضخم في المجتمع، وما يلحق ذلك من تبعات سلبية على مستوى العرض والطلب.
يذهب البعض في اتجاه أن سبب الأزمة المالية هو قلة المال وعدم كفايته، وأن المدينين أصبحوا في حالة إعسار تجاه المؤسسات الدائنة. لكن هذا السبب هو عبارة عن توصيف لما وقع بشكل مباشر في تأجيج شرارة الأزمة، أما السبب الحقيقي فيكمن في عدم ثقة المستهلك وضعف رغبته في الاستهلاك(اقتناء العقارات المطروحة في السوق على سبيل المثال)، وتفضيله لادخار أمواله وعدم المجازفة بها. فانخفض الطلب وأنهار ثمن العقار، وأنهارت معه القدرات التسديدية للمستثمرين في العقار والمدينين مع المؤسسات المالية، فتكدست الأموال في حسابات المستهلكين المحتملين، بدل أن تكون رائجة ومنتجة. ينال منها كل متدخل في الدورة الاقتصادية نصيبه الذي يناسب جهده وعمله.
إن الحكامة المالية للزكاة تقوم على الاستجابةِ العمليةِ لدعـوة الإسلام إلى إنفاق الثروة وتفتيتها لكي يصيب كل فرد من أفراد المجتمع نصيبه منها، فالمجال ليس مجال الاحتكار والاكتناز، وإنما هو مجال ترويج الثروة لإنتاج الثروة، وأن تبقى ثروة المجتمع رائجة متجولة بين عناصر الإنتاج، عوض ادخارها وحجزها عن التداول، على اعتبار أن الثروة وسيلة وليست غاية في حد ذاتها.
وتسمو مقاربة الإسلام للثروة حينما يصف القرآن الكريم المال بالخير الواجب إنفاقه، يقول الله تعالى: [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ”[[5]]. ووصفه أيضا بفضل الله الواجب عدم البخل في إنفاقه، يقول الله تعالى: [وَلَا يَحْسبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[[6]].
وفي الإسلام مجموعة من الإجراءات الداعمة لسياسات الإنفاق والمفتتة للثروة، نذكر منها على سبيل المثال: نظام توزيع الإرث، حيث كل فرد من عائلة المتوفى ينال نصيبه من الإرث بحسب درجة قربه من المتوفى، ونظام الوصية، ونظام الوقف، ونظام الصدقات الجارية وغيرها… [[7]].
الوجه الثاني : ترشيد علاقة الاستهلاك بالانتاج
إذا كانت الأزمة المالية العالمية قد ساهمت في خلخلة عنصر الثقة لدى العميل مع المؤسسات المالية، وإضعاف جاذبية العرض المالي والاقتصادي، فإن الحكامة المالية للزكاة من منظور الشريعة الإسلامية تتطلب لزوما تعزيز قدرات الثقة والشعور بالأمن والرضا في المعاملات المالية والاقتصادية، إلى جانب التحكم في علاقة الاستهلاك بالإنتاج.
من داخل هذا المنظور، نستحضر مسألة أبدعت فيها المقاربة الإسلامية للمال حيث ميزت بين نوعين من الأموال تبعا لوظيفتها، وهما: المال الإنتاجي والمال الاستهلاكي، إضافة إلى محاربتها للاحتكار نظرا لآثاره السلبية على طبيعة الاستهلاك ومستوياته.
أولا: المال الإنتاجي والمال الاستهلاكي
ميزت الشريعة الإسلامية بين نوعين من المال؛ حيث هناك مال مخصص للإنتاج، وآخر مخصص للاستهلاك. ومقاربة التنمية تكون في مستوى تحقيق التوازن والتكافؤ بينهما، فبقدر ما ينتجه المجتمع من مال إنتاجي، بقدر ما يوجهه لإشباع حاجاته ورغباته، على أساس أن المال الإنتاجي لا يمكنه أن يبدل صفته، ويصبح مالا استهلاكيا.
يروي الإمام مسلم في كتاب الأشربة من صحيحه، عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة قالا: الجوع يا رسول الله قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا فقاموا معه فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته فلما رأته المرأة قالت مرحبا وأهلا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء. إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني، قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب فقال: كلوا من هذه وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك والحلوب، فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم.
الذي يفيد من هذا الحديث، هو قول النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الصحابي الذي أراد أن يذبح لهم، “إياك والحلوب”، فالحلوب هي في أصلها مال تنتج مالا، والإبقاء عليها لهذه الوظيفة هو عين تحقيق تنمية المال، إلا إذا حال حائل دون الاستمرار في أداء درها للحليب، وبالتالي فلا مبرر أن يستهلك الإنسان أصل ماله، وسبب رفاهيته ونماء حياته.
ويروي الإمام أحمد في مسنده، عن سعيد بن حريث قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من باع عقارا كان قمنا أن لا يبارك له إلا أن يجعله في مثله أو غيره، إشارة منه صلى الله عليه وسلم، أن العقار هو مال إنتاجي، ينتج منفعة تقوم بالمال، وبيع هذا العقار، هو بيع لمال إنتاجي، من تم ينبغي أن يوجه ذلك المال المحصل من البيع إلى شراء عقار آخر مثله أو على الأقل، أن يوضع في موضع إنتاجي، ولا يسمح باستهلاكه، وإلا أصبح معه الإنسان البائع عالة على نفسه، حينما ينتهي من استهلاكه.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية، مهد الأزمة المالية العالمية، التجأ بعض المدينين إلى بيع ممتلكاتهم وعقاراتهم (مال إنتاجي) من اجل تسديد حاجيات الاستهلاكية (مال استهلاكي)، فكانت النتيجة هو الهبوط الحاد في أثمنة هذه المعروضات، وعدم كفاية مدخولها لمواجهة مستويات الاستهلاك العالية. في مقابل فضل الآخرون اللجوء إلى آلية الادخار والاحتكار.
ثانيا: التأثير السلبي للاحتكار على مستوى الاستهلاك
يتأثر خطاب الزكاة بموضوع الاحتكار، وذلك من عدة وجوه، أبرزها الرغبة في التحكم في السوق والحد من آليات المنافسة المشروعة، وما يترتب على ذلك من أكل أموال الناس بالباطل؛ من خلال تضييع فرص للربح على العارضين. حيث تكون المحصلة النهائية هو انخفاض منسوب الأنصبة المالية للزكاة بفعل انخفاض أصل المال.
وفي الأزمة المالية العالمية، اتخذ موضوع الاحتكار صورة أبشع، وذلك حينما فضلت بعض المؤسسات المالية احتكارها لبعض الخدمات، وافتعالها للندرة فيها، فعَظُم شأن الطلب على ما تم احتكاره، فارتفعت الأسعار، وتضخم الاقتصاد… فتوسعت الهوة بين مستويات الاستهلاك ومستويات الإنتاج؛ فحلت الأزمة.
إن الاحتكار في جوهره هو أن يستحوذ البائع أو الشاري لسلعة أو خدمة قصد افتعال الندرة بالحد من العرض لرفع الأسعار، أو أن يحرص الإنسان على شراء أكثر مما يستحق، أو أكثر مما تحتاج إليه الحياة المعتدلة، ثم يجمعه ويكنزه، ليتوسع في التمتع والتنعم، في حين أن غيره من الناس لا يجد ما يحتاج إليه من نصيبه في مطالب الحياة[[8]]. ولذلك قال أهل اللغة إن الحكرة من الاحتكار، وهي حبس الطعام لانتظار غلائه. وتبعا لما يلحقه الاحتكار من مضار للمجتمع، كان التحريم واضحا في شريعة الإسلام، حيث صنف الإمام مالك في الموطأ بابا سماه باب “الحكرة والتربص”، ويذكر فيه أن عمر بن الخطاب قال: لا حكرة في سوقنا. لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب، إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا. فيحتكرونه علينا. ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف، فذلك ضيف عمر، فليبع كيف شاء الله، وليمسك كيف شاء الله[[9]].
والاحتكار من طبيعته، أنه يؤدي إلى مساوىء اقتصادية يعاني منها المجتمع، أهمها[[10]]:
- ارتفاع أثمان السلع عن أثمانها في ظل المنافسة؛
- عدم إدخال التحسينات والتجديدات في عمليات الإنتاج لانعدام المنافسة،
- تحديد الإنتاج ونقص كمياته عن الكميات التي يمكن الوصول إليها في ظل المنافسة
- عدم إمكانية تحقيق إشباع احتياجات المجتمع بالدرجة المطلوبة والممكنة اقتصاديا.
هذه المساوىء من شأنها أنها تساهم في نقص إنتاج ثروة المجتمع، والتي يكون تأثيرها سلبا على الدورة الاقتصادية، وذلك بإصابة بعض عناصر الإنتاج بالعطالة، نتيجة فقدانه لسلع محتكرة، ومن تم لا يتحقق التشغيل الكامل لدورة الإنتاج، وهذه كلها مقدمات وأعراض لوقوع الأزمات الاقتصادية والمالية.
خاتــــمة:
تساهم الزكاة كإحدى المعاملات المالية المهمة في حياة المسلم، في تعزيز إجراءات الثقة بين كل المتدخلين في موضوع الزكاة، حيث تفترض الحكامة المالية للزكاة توفر وجود إرادة قوية لدى الدولة ـ باعتبارها راعية للمصلحة العامة ـ في إيجاد البيئة السليمة لبعث الثقة لدى عموم المكلفين بها وتحفيزهم على إخراجها؛ إضافة إلى الرفع من جاهزية المجتمع من أجل تيسير انخراطه كأفراد وهيئات في دعم هذه الثقة وإكسابها المناعة القوية قصد إنتاج التوليفة المناسبة لضمان فعالية اكبر لدور الزكاة في المجتمع.
وإذا كان منطق السوق المالي يحضى بأهمية كبيرة في المنظومة المتكاملة للزكاة، فإن ذلك راجع إلى كونه يقوم على تكثير العرض لاستجلاب الطلب، بهدف إنتاج الثروات التي تعتبر وعاءات للزكاة، وبالتالي فإن ضبط مداخل هذه المعادلة ومخرجاتها يشكل ضرورة اقتصادية لا مندوحة عنها، ويتداخل فيها السياسي الدولتي والاجتماعي المدني… فالكل يتناغم في إطار من الثقة المتبادلة والمستصحبة للبعد الرسالي والوظيفي لخطاب الزكاة في مجتمعات المسلمين.
[1] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، الجزء الرابع ، الطبعة الأولى ،1407-1986 ،دار الريان للتراث، ص 339 .
[2] يوسف القرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام،الطبعة 13 ،المكتب الإسلامي 1400-1980، ص135.
[3] يوسف القرضاوي، مرجع سبق ذكره، ص245 .
[4] احمد الشرباصي، يسألونك في الدين والحياة،الجزء الأول، دار الجيل بيروت، ص 300.
[5] الآية 213 سورة البقرة.
[6] الآية 180 سورة آل عمران.
[7] صالح النشاط وأم كلثوم أنوار، التنمية البشرية من منظور فقه عمارة الأرض، مطبعة طوب بريس، 2011، ص 212 وما بعدها.
[8] أحمد الشرباصي، الاسلام والاقتصاد، بدون تاريخ ، ص179.
[9] الموطأ للإمام مالك بن أنس، الطبعة الخامسة ، 1419/1999 ،منشورات دار الآفاق الجديدة المغرب، ص 570.
[10] عبد الحميد البعلي، الاحتكار وموقف الإسلام منه، مجلة الاقتصاد الإسلامي ، عدد 278 ، يوليوز 2004،، ص 74 بتصرف.