قراءة في كتاب: زكاة العروض والمستغلات…
قراءة في كتاب: “القول المبين في زكاة العروض والمستغلات ومخرجات الأرض والدين” لمؤلفه: الدكتور القاضي برهون
-
التفويض الإداري17 يوليو 2024
-
الفتوى بين الإحجام والإقدام9 يوليو 2024
ذ. صالح النشاط
يحتوى هذا الكتاب على 438 صفحة من الحجم الكبير، وهو صادر عن مطبعة إباج بالدارالبيضاء، سنة 2001، وهو يتضمن ستة فصول، اضافة الى مقدمة وخاتمة، وكل فصل يتوزع الى مباحث، حيث تناولت هذه الفصول، بعض أنواع الوعاءات الزكوية، مثل عروض التجارة، والمستغلات ومخرجات الأرض والديْن، والتي تحتاج الى قول مبين في توضيحها، وبيانها، والاستدلال عليها، مستعملا في ذلك الرصيد العلمي، والاجتهادات الفقهية لمختلف المذاهب الفقهية، وخصوصا: المذهب الحنفي، والمالكي، والشافعي والحنبلي).
وقبل بسط أهم مضامين هذا الكتاب، نقدم ترجمة موجزة لصاحب هذا الكتاب؛ فهو القاضي بن المفضل بن أحمد برهون، ولد في قبيلة بني زيات إحدى قبائل غمارة اقليم شفشاون بالمغرب، سنة 1947. حفظ القرآن الكريم، وتلقى تعليمه الابتدائي الخاص بسلا، والتعليم الثانوي بالتعليم الأصيل بشفشاون، وحصل على الإجازة في الشريعة من كلية الشريعة بفاس سنة 1982 م، وعلى اطروحة دكتوراه من جامعة محمد الخامس بالرباط، شعبة الدراسات الإسلامية سنة 1997 م
وقد صنف في الحديث، “خبر الواحد في التشريع الإسلامي وحجيته”، وفي فقه الزكاة : “القول المبين في زكاة العروض والمستغلات ومخرجات الأرض والدين”، وفي بيع الأجل من البيوع : “التجرؤ المفرط على ادعاء الإجماع على إباحة أخذ الثمن الأكثر والزيادة في الثمن للأجل والتقسيط”. وفي فقه البيوع : “حكم الشرع في عقد الإجارة وأنواع من عقود البيع”. وغيرها من المؤلفات والمقالات والمساهمات العلمية القيمة.
ويعتبر كتاب “القول المبين في زكاة العروض والمستغلات ومخرجات الأرض والديْن”، من بين أهم ما كتبه الدكتور القاضي برهون، في مجال فقه الزكاة، وهو الكتاب الذي بين أيدينا.
إن إجراء قراءة لهذا العمل، يتطلب تحليل الشكل والمضمون لهذا العمل.
أولا: قراءة في سيميائية غلاف الكتاب
كُتب عنوان الكتاب بالمداد بالأسود وبخط “النسخ”، ضمن شكل هندسي أخضر، يوحي على أنه شكل باب مفتوح على بساط أبيض، يتوسطه ميزان منتصب بكفتيه المتوازنتين.
إن قراءة هذا الغلاف، من شأنه أنه يكشف عن الجوانب الخفية والمستورة، وراء اختيار الموضوع، والمنهج المتبع في دراسته، من جهة، ومن جهة أخرى، طبيعة الهواجس النفسية التي تحضر لحظة اختيار المؤلف لغلاف مؤلفه، والحيرة بين الأشكال والألوان والخطوط، وهذا في حد ذاته، مستوى آخر من التأليف، أصعب ما فيه؛ أنه موجه لشريحة تقرأ ما كُتِب قبل أول كلمة في الكتاب، وتقرأ ما بين السطور، وخلف السطور، وتقرأ ما لم يقل وراء ما قيل.
إن الناظر إلى صورة الغلاف، يتبين، أن مؤلف هذا الكتاب، غلبت عليه علامات البساطة، والوضوح في طرح موضوع، الأصل فيه هو البساطة وتقريبه من الفهم والاستيعاب، دون تعقيد، على اعتبار أن شريحة المعنيين بخطاب الزكاة هي عموم المسلمين باختلاف مستويات فهمهم واستيعابهم. والدليل على هذا التوجه في ملامسة موضوع الزكاة، من الناحية الشكلية والسيميائية، هو اعتماده على شكل الباب، المفتوح، والعالي، والمقوس، لكي يدخله كل الناس، حتى وإن اختلفت أحجامهم وكُثل أجسادهم، إلا أنهم يجتمعون في تقويسة الباب المزركش بالزخارف المبثوثة أعلاه، والتي تعيدهم إلى تراثهم وأصالتهم المرتبطة بزخرفة المسجد وعمارتها في المخيال الشعوري عند المسلمين.
[maxbutton id=”1″]
كما أن حضور اللونين الأبيض والأخضر، بشكل قوي على غلاف الكتاب، يؤكد على صفاء سريرة المؤِلف والمؤَلف، ونقاء الفكرة ووضوحها ونصاعتها، كنصاعة الأبيض المخمل في سريان الأخضر، المتدفق نضرة ورونقا وربيعا.
كما أن الخط الذي كُتب به عنوان الكتاب، ينتمي الى صنف خط النسخ، وهو من أجود الخطوط العربية، وأجملها، وأبسطها في ذات الوقت، وهو خط يفهمه جميع من يقرأ بالعربية، لأنه يحتمل التشكيل، ويبتعد عن التكلف، وهذا الاختيار يعكس رغبة المؤلف في أن يكون كتابه هذا بعيدا عن التكلف والتعقيد، وفي متناول الجميع، وهو ما استطاع، أيضا، أن يبرزه وبشكل واضح، حينما أدرج كلمة”القول المبين” في مقدمة عنوان كتابه.
أما الميزان المنتصب وسط هذه اللوحة الجميلة، فهو ميزان العدل في طرح الفكرة والبحث عن الدليل والبينة، لإثباتها أو نفيها، وهو أيضا ميزان العدل في التعامل مع موضوع الزكاة، الذي لم يلق اهتماما كبيرا من طرف الباحثين والمفكرين المعاصرين، لتنقيح التراث الفقهي في مادة الزكاة، والبحث عن مساحات لتنزيل خطاب الزكاة على الحوادث والمستجدات المعاصرة.
ثانيا: قراءة في عرض مضامين الكتاب
إن موضوع الكتاب يعالج موضوع زكاة عُروض التجارة، والمستغلات ومخرجات الأرض والديْن، وهذه تشكل أهم وعاءات الزكاة، والتي يكثر حولها حديث الناس، وهو الأمر الذي يوجب، على حد قول المؤلف، الانطلاق من الواقع المعيش لرصد طبقات الناس، وإمكانياتهم، وضروراتهم، وحاجاتهم، وطرق علاج مشكلاتهم. ان استحضار مثل هذه الدواعي يكشف عن قصد المؤلف ورغبته في الاجابة عن اشكالات مطروحة، بدل أن يكون بحثه هذا بعيدا عن واقع الناس، ومشكلاتهم.
إن صاحب هذا الكتاب، وهو الحائز على دكتوراه في الفقه والحديث، مطلع على موضوع هذا الكتاب، وملم بكل جوانبه، ففي الفصل الأول، خصصه المؤلف لزكاة عروض التجارة، (من الصفحة 41 الى 121)، حيث عرج عن مفهوم عروض التجارة، من حيث كونها تشمل كل العروض المعدة للتجارة نية وعملا، حيث تكون فيها الزكاة، بعد توفر النصاب وتمام الحول، أي مرور سنة على ادارة التجارة(ص43)، مستدلا بقول الله تعالى: “ياأيها الذين أمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم”/البقرة267. وبعد بسط اختلافات بعض أئمة المذاهب الفقهية في تحديد ما يدخل وما لا يدخل في هذه العروض، يرجح المؤلف، في مسألة الأبقار والأغنام والدجاج على أنها من عروض التجارة معدة للنماء والربح أصولا وانتاجا، تضم الاصول الى الانتاج ويزكى الكل بإخراج ربع العشر بعد تمام الحول واسقاط الديون والمصاريف، وبعد هذا الترجيح، يعرض المؤلف لأقوال أئمة المذاهب في زكاة عروض التجارة، مع الاستدلال على تلك الأقوال بما يناسبها.
[maxbutton id=”1″]
وفي الفصل الثاني: (من ص 127 الى 158)، ركز المؤلف جهده على تحرير مناط الخلاف في موضوع زكاة المستغلات الكرائية والصناعية والتجارية، والمال المستفاد ومسألة تزكيته، إضافة إلى تحقيقه للقول في حديث اشتراط الحول. والمؤلف في هذا الاتجاه، سلك مسلك الموسعين في إخراج الزكاة من كل ما يصلح أن يكون وعاء أو مصدرا للزكاة، على خلاف المضيقين الذين وقفوا عند حدود الأصناف التي أخذت منها الزكاة والمحصورة في تسعة أصناف. على أساس، أن هناك وعاءات منتجة للمال والكسب، من قبيل المستغلات الكرائية والصناعية؛ كالعمارات والفنادق، والدور، والحمامات، والحوانيت والمتاجر، ويضاف إليها المعاهد والمدارس الخاصة، وسيارات الأجرة، وسيارات النقل العمومي، والسفن وغيرها…ماذا يقول أهل العلم في هذه المستغلات على اختلاف أنواعها؟ هل تعفى من الزكاة عينا وإنتاجا؟ أم تعفى عينها ويزكى دخلها وإنتاجها؟ وغيرها من الأسئلة التي تحتاج الى جواب.
وفي موضوع “زكاة ما أخرجت الأرض”، تناول المؤلف في الفصل الثالث: (من ص159 الى 210)، بيان هذا النوع من الزكاة، انطلاقا من قوله تعالى: “ومما أخرجنا لكم من الأرض”، حيث تناول المؤلف في هذا الفصل مجموعة من المطالب، منها: عرض أدلة القائلين بزكاة ما أخرجت الارض، واختلاف أهل العلم في ذلك، خصوصا عند المذاهب الفقهية؛ المذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي.
والآية التي انطلق منها المؤلف في هذا الموضوع، تفيد، حسب رأي المؤلف، اخراج الزكاة من كل ما أخرج الله من الارض، من الشعير والقمح والذرة وأنواع القطاني والخضر كالطماطم والبطاطس والبصل، والفواكه كالتفاح والموز والإجاص والبرتقال…وغيرها (ص165)، ليخلص الى أن الواجب في هذه الفواكه والخضراوات التي تنفق عليها اموال ضخمة، وزراعة وسقيا ودواء وأجور عمال… هو نصف العشر، لأنه بدل عن الخارج من الأرض، فيأخذ حكمه ويقدر بقدره.
أما في موضوع ديون الانسان، سواء على غيره، أو على نفسه، هل تجب الزكاة في الحالة الاولى، وتمنع في الحالة الثانية؟ ولكل سؤال، خصص له المؤلف فصلا مستقلا بذاته، حيث استعان المؤلف بأقوال أئمة المذاهب الفقهية، واستنتج أن الاتفاق حاصل بين هؤلاء الأئمة على زكاة الدين إلا أن الأحناف فرقوا بين المقدور عليه وغير المقدور عليه. أما في حالة زكاة من عليه دين، فالمؤلف، ومن خلال جمعه لمختلف أقوال أئمة المذاهب الفقهية الأربع، تبين له، أن الدين الذي على الانسان لا يمنعه من زكاة ما عنده من مال بعد أداء الدين إن بقي عنده نصاب، ولا زكاة عليه ان استغرق الدين ماله.
إن الخلاصة التي يمكن الوصول إليها من خلال قراءة هذا الكتاب، تتجلى في كون أن المؤلف قد جمع ما تفرق في غيره من المؤلفات، واستطاع أن يجيب عن أسئلة ظلت محفوفة بهاجس التجرؤ على الخوض في مسائل قد حسمت نصيا وفقهيا، وذلك عن طريق مدخل البحث العلمي وضرورة الاجتهاد لتوسيع وعاء الزكاة، تبعا لتوسيع مصادر انتاج المال والثروة، من جهة، ومن جهة أخرى توسيع دائرة الفقر والاحتياج في المجتمع. وعليه تكون مطالب المؤلف قوية، وواضحة، في ربط الزكاة بمشروع علاج مشكلة الفقر في المجتمع، فالزكاة تجب في كل مال نام مرصد للنماء، وفي كل مخرجات الأرض، وهذا يعكس تطورا علميا وبحثيا مهما في أن تشمل الزكاة كل مصادر إنتاج المال المتغيرة والمتجددة بتغير وتجدد الحوادث والنوازل، والاجتهاد أكثر في الرصيد التراثي المتراكم في هذا المجال، والأخذ بكل الآراء المتقدمة فقهيا، في موضوع الزكاة، ومن أي مذهب فقهي كانت، لأن المقصود، هو أن تساهم الزكاة في تحصيل أكبر قدر من المال لتضييق هوة الفقر في المجتمع، ورتق الفتق الاجتماعي، وإصلاح الأعطاب والاختلالات التي يفرزها تباين مستويات العيش عند أفراد المجتمع الواحد.
مقال منشور بمجلة شؤون الزكاة