التخصص المدني في قضايا المال العام
يكون حافز المجتمع المدني؛ من حيث هو مجموع إرادات بشرية مسلحة بقوة الرغبة في خدمة المجتمع بشكل تطوعي، هو الإسهام في إزاحة العقبات وتذليل الصعاب من طريق التنمية المجتمعية، فهذه الإرادات تتألف في إطار مؤسسات قانونية، من طرف مجموعة من المواطنين على شرط التطوع وقابلية الأعضاء والمنخرطين للعمل بدون هدف توزيع الأرباح المتحصلة من نشاط المؤسسة، وهي بذلك تعتبر كـ”مقاولات من نوع خاص لارتكازها على قيم التضامن والديمقراطية، والاستقلالية والمسؤولية، والالتزام تجاه المجتمع”[[1]]. وبالتالي يكون مؤشر التدخل المدني هو “المساهمة في دمقرطة الحياة بالمجتمع والانتقال به من مجتمع الدولة إلى دولة المجتمع”[[2]].
إن العقبات التي تعترض التنمية المجتمعية، لن تكون إلا العقبات التي يفتعلها ذووا النيات السيئة لإعاقة مسار التنمية، وذلك من خلال لجوئهم إلى ممارسة أعمال تشين لحرمة المال العام، والمصلحة العامة، وهي أعمال تصنف في دائرة الفساد الإداري والمالي، غايتها تحصيل أكبر قدر من المنافع المادية والمعنوية بشكل يخالف المقررات القانونية الجاري بها العمل.
وإذا كان بعض هؤلاء المفسدين قد تفننوا في استعمال بعض الآليات والمخارج للإفلات من المحاسبة والعقاب، فإن الحاجة اليوم قائمة في ضرورة إشراك المجتمع المدني ـ وهو المتحرر من كل الضغوطات والاكراهات ـ وتوجيه بوصلة البعض منه الى أن يتتبع حركية المال العام المرصود للتنمية المجتمعية، ويرشد اليقظة المدنية أمام كل الانتهاكات والاختلالات، والمحاولات الرامية للاعتداء على حرمة المال العام.
إن إبراز هذه الرغبة الجامحة في تقوية هذا النوع من المجتمع المدني الذي يشتغل على قضايا المال العام بالمغرب، ويرصد كل الحركيات التي يوظف فيها المال العام، يحتاج الى تناول هذا الموضوع من خلال شقين يتكاملان فيما بينهما، وهما: شق الدولة والمجتمع، فالدولة من خلال سياساتها العامة الكاشفة عن حقيقة مدى توجه الدولة في محاربة أو عدم محاربة الفساد المالي، وتعتبر الوثيقة الدستورية أرقى وثيقة مؤطرة لهذا التوجه(أولا)، أما الشق الثاني، وهو المجتمع، الذي يحتفظ لنفسه بآلياته الخاصة التي تجعله يقيم محكمته الخاصة به ضد المفسدين الذي عاثوا في المال العام فسادا، وهذا الأمر يحتاج الى ترشيد وتسديد وتصويب، حتى لا يخطئ هذا المجتمع في الحكم(ثانيا)؛ وهذا هو دور المجتمع المدني المتخصص في قضايا المال العام، رصدا وتتبعا وتحليلا واستنتاجا وتعميما.
أولا: الإسناد الدستوري لفكرة محاربة الفساد المالي
يعتبر المجتمع المدني شريكا أساسيا للدولة ولمؤسساتها في تدبير الشأن العام، من حيث مكانته التي بات يشغلها على خريطة السياسات العمومية، وكونه أصبح يتمتع بقوة اقتراحية كبيرة، في التقدم باقتراحات ومشاريع عمل إلى الجهات المعنية قصد اتخاذها والعمل بها. فالفصل 12 من الدستور المغربي ينص على أن جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية تُساهم، في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها[[3]].
وفي موضوع المال العام، تتعاظم مسؤولية المجتمع المدني في تقوية اليقظة المدنية ضد السلوك المالي للأشخاص العامة، والتصدي بكل الوسائل المدنية لكل حالات الاعتداء التي تستهدف حرمة المال العام، حيث “يبقى المجتمع المدني شريكا ضروريا لمكافحة الفساد، ففي كثير من الأحيان، لا تقوم الحكومات بنفسها بإجراء الإصلاحات حتى عند وجود قيادة قوية تدعم هذه التغيرات”[[4]].
وهذه المسؤولية تتعزز من خلال انتساب مبدأ “الحق في محاربة الفساد” الى المجتمع مباشرة، الهادف الى تعزيز المناعة المجتمعية، بغية الوقوف ضد كل الفرص المشجعة على ممارسة الفساد الإداري والمالي في الشأن العام، على اعتبار أن المقاربة المجتمعية تحضى بمنسوب عال من الفعالية والجدية.
وقد أعطى دستور فاتح يوليوز 2011، إشارات قوية لدعم توجه المجتمع والدولة في محاربة الفساد، وسياسات الفساد، وكل صور الاختلالات التي يمكن أن تصيب ممارسة الشأن العام، وذلك حينما نص على “الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها”، وعمل على دسترتها(الفصل 36) ومنحها حصانة قانونية تؤهلها لممارسة وظائفها ومهامها بكل استقلالية وحرية. على اعتبار أنها ضمير المجتمع الحي في إشاعة قيمة النزاهة والشفافية، ومحاصرة الرشوة، وكل أنواع الفساد والعبث في السياسات العمومية.
إن هذه الهيئة الدستورية، وهي تنوب ـ في عمق وظائفها ـ عن المجتمع في ممارسته لِحقه في محاربة الفساد، تتولى بمقتضى الفصل 167 من الدستور مهام “المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد، وتلقي ونشر المعلومات في هذا المجال، والمساهمة في تخليق الحياة العامة، وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، وثقافة المرفق العام، وقيم المواطنة المسؤولة”[[5]].
وإذا كانت تجربة المغرب في هذا النوع من المجتمع المدني المتخصص في الدفاع عن المال العام قد عمرت أكثر من عقدين، فإنها مازالت في بداياتها، مقارنة مع بعض الدول التي توجد في نفس وضعية المغرب، بحيث عرف العقد الأول من قرن 21 ظهور بعض الجمعيات التي جعلت من اهتمامها فكرة الدفاع عن المال العام، على اعتبار أن ملكية هذا المال هي ملكية مفترضة لعموم أبناء المجتمع، والدولة لا تملك إلا تفويضا من هذا المجتمع في التصرف فيه، وإدارة شؤونه.
ومما لا شك أن دستور 2011 استند الى بعض مقتضيات “اتفاقية مكافحة الفساد” الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة سنة 2003، والتي اعتمدها المغرب عبر إصداره لظهير شريف رقم 1.07.58 في 19 ذي القعدة 1428هـ، موافق لـ 30 نونبر 2007 بنشر اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في الجريدة الرسمية[[6]]. وقد تطرقت هذه الاتفاقية الأممية للعديد من تمظهرات الفساد وأشكاله مثل الرشوة، واختلاس المال العام، والاتجار بالنفوذ، والفساد في صفقات الدولة ومؤسساتها وغيرها من صور الفساد المالي والإداري. وكل هذه القضايا تتقاطع مع إرادة المجتمع في العيش الكريم، وتحسين ظروفه المادية والمعنوية.
ثانيا: محكمة المجتمع والحاجة إلى تخصص في قضايا المال العام
تعتبر رقابة مؤسسات وهيئات المجتمع المدني بمثابة رقابة المجتمع برمته في تخليق الحياة العامة، كما أن موضوع التخليق لا يخضع للقانون وحده، وذلك لكون الأفعال التي لا تختص المحاكم بالنظر فيها، تبقى خاضعة لمحكمة الرأي، بمعنى رأي المجتمع[[7]].
ورغبة في حضور مجتمع مدني متخصص في محاربة الفساد المالي، أحدثت مجموعة من الهيئات والجمعيات التي تشتغل على هذا الموضوع، من حيث ترشيد التعامل مع موضوع المال العام، ومحاربة كل سياسات الفساد، في هذا الاتجاه، نص الدستور المغربي على واحدة منها، وهي “الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها”، واعتبرها هيئة مستقلة، ونظم مهامها الفصل 167، والذي سبقت الإشارة إليه، في المقابل، توجد مجموعة من الهيئات والجمعيات والائتلافات والشبكات التي تأسست بمبادرات مجتمعية، وهي مازالت تحتاج إلى دعم ومساندة، كما أنها مازالت تحتاج إلى تأهيل وتطوير ووضوح على مستوى أطروحاتها النضالية. سأقتصر على ذكر البعض منها(خمس حالات)؛ وذلك باختصار في حدود التعريف، وهي على الشكل الآتي:
ـ الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها: وهي مؤسسة دستورية نص عليها دستور فاتح يوليوز 2011، كإحدى هيئات الحكامة الجيدة والتقنين، ففي الفصل167، أوكل إليها المشرع بأن تتولى، على الخصوص، “مهام المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد، وتلقي ونشر المعلومات في هذا المجال، والمساهمة في تخليق الحياة العامة، وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، وثقافة المرفق العام، وقيم المواطنة المسؤولة”.
ـ الشبكة المغاربية لحماية المال العام : والتي تأسست بمبادرة من الهيئة الوطنية لحماية المال العام بالمغرب، وتضم فعاليات من دول المغرب العربي: موريطانيا، تونس، الجزائر، ليبيا والمغرب، وهي إحدى التطبيقات الواردة في سياق تفعيل الاتفاقية الدولية لمحاربة الفساد.
ـ الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة “ترانسبرانسي المغرب” : والتي أنشئت في أواسط التسعينات من القرن الماضي، في خضم التعديلات الدستورية التي عرفها المغرب سنتي 1992 و1996، وكان من بين الأهداف التي سطرها القانون الأساسي للجمعية في فصله الخامس مايلي: الوقاية من الرشوة ومحاربتها في المعاملات العمومية والخاصة على الصعيدين الوطني والدولي؛ وتعميق معرفة ظاهرة الرشوة من خلال دراسة مسبباتها وطرقها وتجلياتها ومختلف انعكاساتها.
ـ الهيئة الوطنية لحماية المال العام: والتي تأسست في24/3/2002، وتضم أكثر من 40 إطارا جمعويا ونقابيا وحقوقيا وشبابيا وعدة شخصيات مستقلة، وزمن التأسيس كان مطبوعا بالحاجة المجتمعية إلى التصدي للفساد المالي، وحماية المال العام، وذلك من خلال رصد الاختلاسات والرشاوى عن طريق اليقظة وتكوين فروع ولجن محلية، من جهة، ومن جهة أخرى، فضحها والتصدي لها ميدانيا وبالدراسات.
ـ المرصد الوطني لمراقبة استعمال المال العام في الانتخابات: وهو مرصد أعلن عنه يوم 23/2/2007 بالرباط من طرف الهيئة الوطنية لحماية المال العام وذلك بهدف مراقبة استعمال المال العام في كل أنواع الانتخابات التشريعية والجماعية والمهنية وغيرها، حيث تتجلى أهدافه الرئيسة في رصد تحركات جميع المرشحين المحتملين، وكذا المؤسسات العمومية التي تعمد إلى تسخير ممتلكاتها المادية والمعنوية، لدعم البعض من المرشحين، إضافة الى رصد الكيفية التي يستعمل فيها المال العام في الانتخابات.
كل هذه الهيئات والجمعيات والشبكات التي تشتغل على فكرة المال العام، تعتبر في حد ذاتها عنصر قوة في إكساب السلوك المالي للمسؤولين مصداقية أكبر، من حيث تعدد مداخل الرقابة، والمحاسبة، وتضييق فرص الاعتداء على المال العام، فحتى إذا أخطأت المساطر المحاسباتية، وآليات الرقابة المؤسساتية عن كشف الاختلالات والاعتداءات، فإن محكمة الرأي العام، ومحكمة المجتمع ستبقى قائمة ومفتوحة، تتربص بكل المفسدين الذين يخسرون رأسمالهم الرمزي، وغير المادي، ومركزهم الاجتماعي، لدى شرائح المجتمع بحكم أنهم أصحاب المال الحقيقيين.
خاتمة:
من خلال ما سبق، يمكن التأكيد على ضرورة تقوية قدرات المجتمع المدني المتخصص في قضايا المال العام، وإزاحة كل الكوابح التي من شأنها أن تعيق إرادة المجتمع المدني في التجاوب مع انتظارات المجتمع، كما أن الموقف يدعو إلى تفعيل آلية الرأي العام المحلي والوطني، وهو من بين الآليات التي مازالت شبه غائبة عن دائرة اهتمام خبراء الشأن العام، ويستعمل لقياس حجم الرضا أو درجة السخط لدى الرأي العام تجاه التصرفات الإدارية والمالية للمسؤولين عن تدبير الشأن العام. كل هذه الصور تجعل التأكيد على مقتضى استحضار حق المجتمع المدني في محاربة الاختلالات في أبعد تجلياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتي يلعب فيها “الرأي العام” دورا محوريا وأساسيا. وإذا كان الرأي العام تطبعه العفوية والتلقائية، فإن دور المجتمع المدني، وخصوصا المتخصص في هذا الموضوع، سيفيد في خلخلة البناء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المحتضن لفكرة الاعتداء على حق المجتمع في ملكيته المفترضة للمال العام، وسيساهم في تقوية حساسية المجتمع تجاه كل سياسات الفساد.
صالح النشاط
مقال منشور بمجلة الفرقان عدد 74 سنة 2014، (من الصفحة 72 إلى 75)، مطبعة النجاح الجديدة
المراجع:
ترتيب أبجدي
- اتفاقية محاربة الفساد، الجريدة الرسمية عدد 5596 بتاريخ 8 محرم 1429هـ، موافق لـ 17 يناير 2008م من الصفحة:133 إلى الصفحة:177.
- بوبكر بهلول، التخليق الإداري بين الواقع والقانون، سلسلة الإدارة القضائية العدد الثاني، طبع ونشر مكتبة دار السلام، 2005 .
- دستور المملكة المغربية، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر، بتاريخ 28 شعبان 1432، (30 يوليوز 2011)، من ص: 3600 الى 3627.
- دليل الجمعيات، وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن، صندوق الأمم المتحدة للسكان 2006.
- عبد الله حارص، المشهد الجمعوي بالمغرب، منشورات الشعلة، مطبوعات النجاح الجديدة، 1999.
- محمد زين الدين، مداخل محاربة الفساد بالديمقراطيات الناشئة، مقاربة قانونية وسياسية في التجربة المغربية، مقالة من ص:23 إلى ص:36، من مجلة: مسالك للفكر والسياسة والاقتصاد، العدد 7/2007.
[1] دليل الجمعيات، وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن، صندوق الأمم المتحدة للسكان 2006، ص:5
[2] عبد الله حارص، المشهد الجمعوي بالمغرب، منشورات الشعلة، مطبوعات النجاح الجديدة، 1999،ص 7.
[3] الجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر، بتاريخ 28 شعبان 1432، (30 يوليوز 2011)، ص:3604.
[4] محمد زين الدين، مداخل محاربة الفساد بالديمقراطيات الناشئة، مقاربة قانونية وسياسية في التجربة المغربية، مقالة من ص:23 إلى ص:36، من مجلة: مسالك للفكر والسياسة والاقتصاد، العدد 7/2007، ص:25 و26.
[5] دستور المملكة المغربية، مرجع سبق ذكره، الصفحة 3626.
[6] الجريدة الرسمية عدد 5596 بتاريخ 8 محرم 1429هـ، موافق لـ 17 يناير 2008م من الصفحة:133 إلى الصفحة:177.
[7] بوبكر بهلول، التخليق الإداري بين الواقع والقانون، سلسلة الإدارة القضائية العدد الثاني، طبع ونشر مكتبة دار السلام، 2005 ص:6.